على غرار حربها (بل حروبها) الطاحنة، تتهدّد صنعاء حرب مياه ضارية. وتشتهر بلدان الشرق الأوسط بأنها مساحات لحروب المياه. لكن، ربما لم يكن متوقّعاً أن تندلع حروب المياه «الداخليّة» (على غرار ما تفعله القوى المتناحرة حول المياه وسدودها في العراق وسورية)، قبل أن تبدأ حروب المياه الخارجيّة مع تركيا وإيران وإسرائيل. في المقابل، تبدو حرب المياه «الداخليّة» في اليمن، أكثر «داخليّة» مما يحصل في العراق وسوريّة، بل ربما في أي دولة أخرى. ففي مقال حاز شهرة واسعة، لفتت مجلّة «فورين أفريز» Foreign Affairs الأميركيّة الشهيرة، وهي ناطقة بلسان «مجلس العلاقات الخارجيّة» Council of Foreign Relations، الوطيد الصلة بالبيت الأبيض، إلى الأزمة المستعصية للمياه في اليمن. حمل المقال عنواناً دراماتيكيّاً هو «اليمن يمضغ نفسه إلى حدّ الجفاف». وقصد كاتب المقال، وهو باحث عربي في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أن نبتة «القات» تمتاز بشراهتها للمياه، وكذلك فإنها لا تساهم في حفظ التربة بسبب صغر حجمها نسبيّاً وكذلك لا ترمي بكثير من الرطوبة إلى الجو، وهي أمور تفعلها أشجار القهوة التي هُزِمَت بقوّة أمام «القات». وقبل فترة غير بعيدة، قدّرت أوساط يمنيّة شبه رسميّة أن 75 في المئة من الصراعات في دواخل اليمن تتأتى من المياه التي يسقط بأثر الخلافات على مصادرها الشحيحة قرابة 4 آلاف يمني سنويّاً! «القات» وأرض اليباب لا يصعب على زائر اليمن ملاحظة انتشار آفة مضغ «القات» بين أبنائها على رغم أن كثيرين منهم يقرّون بأن تناول تلك النبتة الخضراء المكوّنة من ساق تتفرّع منها أوراق طريّة ميّالة للصغر، هو شكل للإدمان. ويذكر أن صيحات الإنذار من «القات» تكرّرت على مدار عقود، خصوصاً أنه ساهم في القضاء على القهوة التي ارتبط اسمها تاريخياً باليمن بمعنى أن لفظة الـ«موكا» الرائجة في تسميّة القهوة عالميّاً، هي اشتقاق من اسم مرفأ «المخا» اليمني التاريخي على البحر الأحمر. وتشير إحصاءات موثوقة إلى أن زراعة «القات» تستهلك قرابة 40 في المئة من مياه وادي صنعاء سنويّاً. وفي الآونة الأخيرة، تمدّدت زراعة «القات» على عشرات آلاف الهكتارات في وادي صنعاء، فاجتاحت في طريقها أشجار الفواكه ومحاصيل الغذاء (إضافة إلى القهوة)، ما ساهم أيضاً في رفع أسعار الغذاء في اليمن، واستطراداً، معدل الفقر أيضاً. وتقدّر «منظّمة الصحة العالميّة» أن 90 في المــئة مــــن الذكور البالغين فــي اليمن، يتعاطون «القات» يوميّاً. وتتناول شريحة لا بأس بها من النساء هذه النبتة التي يرين أيضاً أنها تساهم في تهدئة النزاعات الأسريّة! ولم يكن انتشار «القات» ذريعاً حتى حقبة السبعينات من القرن العشرين، لأن رداءة الطرق لم تكن تسمح بنقل «القات» سريعاً من الأرياف، مع العِلم بأن هذه النبتة تذبل بسرعة، فلا تصلح للاستهلاك في اليوم التالي على قطافها. ولعلها مفارقة مؤلمة أن يترافق التحديث مع انتشار إدمان «القات» وانفلات زراعته، التي تستهلك المياه بقسوة في بلاد ليست غنيّة أصلاً بالماء. وفي العام 2011، فاق استهلاك الماء في وادي صنعاء معدّل تجدّده بالأمطار، بمقدار خمسة أضعاف. وإذا استمر ذلك النمط من استهلاك الماء، فلسوف يتحوّل اليمن أرضاً يباباً تقذف بأهاليها إلى المجهول. كيف تكون الحال إذا أضيفت الحرب الطاحنة بين أبناء اليمن، إلى القوة الطاردة للـ»قات»؟ هل يشهد يمن ما بعد الحرب، موجة هجرة بأثر من تلك الأمور سويّة؟ يرجع جزء من أزمة المياه في اليمن، إلى هدره عبر ممارسة أساليب بدائيّة في الزراعة، خصوصاً ري المحاصيل بالترويّة المعمّمة. ويقدّر خبراء «البنك الدولي» أن الانتقال من ذلك الأسلوب إلى طريقة «الريّ بالتنقيط» يوفّر 35 في المئة من المياه. كذلك تساهم السدود المتآكلة في تفاقم مشكلة المياه يمنيّاً. ففي العام 2010، تلقّى اليمن كميات وفيرة من الأمطار التي وصل تهاطلها إلى مستويات قياسيّة تاريخياً. وفي المقابل، لم تحفظ السدود اليمنيّة المتآكلة سوى كميات قليلة منها. في الخيال الجماعي لليمن، أن «بني هلال» هجروا اليمن بعد أن ضنّت السماء بالمياه، بل حتى بنسيم الريح. هل يؤدي الجفاف إلى موجة يمنيّة من «مهاجري الجفاف»، تكون أشد عتواً وإيلاماً من أزمة المهاجرين من العراق وسوريّة؟
مشاركة :