حكى القاضي التنوخي المتوفي 384 للهجرة في كتابه "الفرج بعد الشدة" حكاية مدهشة، عن الحارث السراج الذي قابل أحد اللصوص، قاطعي الطريق، لكنه كان محبًا للشعر والأدب، ما جعل السراج يتمكن من استرداد ما فقده وزيادة. يقول التنوخي: حَدثني عبد الله بن عمر بن الْحَارِث الوَاسِطِيّ السراج، الْمَعْرُوف بِأبي أَحْمد الْحَارِثِيّ، قَال: كنت مُسَافِرًا فِي بعض الْجبَال، فَخرج علينا ابْن سباب الْكرْدِي، فَقطع علينا، وَكَانَ بزِي الْأُمَرَاء، لَا بزِي القطاع، فقربت مِنْهُ لأنظر إِلَيْهِ وأسمع كَلَامه، فَوَجَدته يدل على فهم وأدب، فداخلته فَإِذا بِرَجُل فَاضل، يروي الشّعْر، وَيفهم النَّحْو، فطمعت فِيهِ، وعملت فِي الْحَال أبياتًا مدحته بهَا. فَقَالَ لي: لست أعلم إِن كَانَ هَذَا من شعرك، وَلَكِن اعْمَلْ لي على قافية هَذَا الْبَيْت ووزنه شعرًا السَّاعَة، لأعْلم أَنَّك قلته، وأنشدني بَيْتا. قَال: فَعمِلت فِي الْحَال إجَازَة لَهُ ثَلَاثَة أَبْيَات. فَقَالَ لي: أَي شَيْء أَخذ مِنْك؟ لأرده إِلَيْك. قَالَ: فَذكرت لَهُ مَا أَخذ مني، وأضفت إِلَيْهِ قماش رَفِيقَيْنِ كَانَا لي. فَرد جَمِيع ذَلِك، ثمَّ أَخذ من أكياس التُّجَّار الَّتِي نهبها، كيسًا فِيهِ ألف دِرْهَم، فوهبه لي. قَال: فجزيته خيرا، ورددته عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: لم لَا تَأْخُذهُ؟ فوريت عَن ذَلِك. فَقَال: أحب أَن تصدقني. فَقلت: وَأَنا آمن؟ فَقَال: أَنْت آمن. فَقلت: لِأَنَّك لَا تملكه، وَهُوَ من أَمْوَال النَّاس الَّذين أَخَذتهَا مِنْهُم السَّاعَة ظلما، فَكيف يحل لي أَن آخذه؟ فَقَالَ لي: أما قَرَأت مَا ذكره الجاحظ فِي كتاب اللُّصُوص، عَن بَعضهم، قَالَ: إِن هَؤُلَاءِ التُّجَّار خانوا أماناتهم، وَمنعُوا زَكَاة أَمْوَالهم، فَصَارَت أَمْوَالهم مستهلكة بهَا، واللصوص فُقَرَاء إِلَيْهَا، فَإِذا أخذُوا أَمْوَالهم، وَإِن كَرهُوا أَخذهَا، كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهُم، لِأَن عين المَال مستهلكة بِالزَّكَاةِ، وَهَؤُلَاء يسْتَحقُّونَ أَخذ الزَّكَاة، بالفقر، شَاءَ أَرْبَاب الْأَمْوَال أم كَرهُوا. قلت: بلَى، قد ذكر الجاحظ هَذَا، وَلَكِن من أَيْن يعلم إِن هَؤُلَاءِ مِمَّن استهلكت أَمْوَالهم الزَّكَاة؟ فَقَالَ:لَا عَلَيْك، أَنا أحضر هَؤُلَاءِ التُّجَّار السَّاعَة، وأريك بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح أَن أَمْوَالهم لنا حَلَال. تقول رواية التنوخي أن اللص الأديب أمر أصحابه بإحضار التجار المنهوبين، فمثلوا بين يديه، فراح يسألهم عن النصاب وكيفية إخراج الزكاة، وعن السنين التي تاجر فيها بالمال وعن حساب الزكاة المقدر إخراجها، وسأل بعضهم: إِذا كَانَ مَعَك ثلث مائَة دِرْهَم، وَعشرَة دَنَانِير، وحالت عَلَيْك السّنة، فكم تخرج مِنْهَا لِلزَّكَاةِ؟ فَمَا أحسن أَن يُجيب. ثمَّ قَالَ لآخر: إِذا كَانَ مَعَك مَتَاع للتِّجَارَة، وَلَك دين على نفسين، أَحدهمَا مَلِيء، وَالْآخر مُعسر، ومعك دَرَاهِم، وَقد حَال الْحول على الْجَمِيع، كَيفَ تخرج زَكَاة ذَلِك.. فَمَا فهم السُّؤَال. ولما فشل التجار في تحرير الجواب على اللص الحاذق، صرفهم وتوجه للسراج قائلا: بَان لَك صدق حِكَايَة أبي عُثْمَان الجاحظ؟ وَأَن هَؤُلَاءِ التُّجَّار مَا زكوا قطّ؟ خُذ الْآن الْكيس. فأخذه السراج وطلب من اللص أن ينفذ معه بعض لصوصه حتى يأمن مخاطر الطريق ففعل الرجل.
مشاركة :