مالك حداد لم يعد منفيا في الفرنسية

  • 5/10/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

مالك حداد (1927- 1978) الشاعر المرموق والروائي الكبير ابن مدينة قسنطينة، مدينة الجسور المعلقة والصخر العتيق والأزقة الصاعدة الهابطة والملتوية، هذه المدينة التي تقع على الصخر وتتخذ منه رمزا للمقاومة والثبات في زمن التحول والتغير، مدينة تنفتح على الآخر المختلف ولا تذوب فيه، فلها من جذورها الضاربة في القدم ومن جمالها الآسر ما يشفع لها ترفعها وكبرياءها الذي امتدحه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة الذي أقام بها زمنا، ومر بها محمود درويش ونزار قباني  وتغنيا بذلك السحر والعنفوان والألق الحضاري العريق. لا غرابة في أن يظل مالك حداد وفيا للمكان – وهو بهذا الزخم - مرتبطا به متخذا من قسنطينة منجما شعوريا وفكريا ومادة خاما للكتابة الروائية وأفقا مفتوحا للممارسة الشعرية الغنية بالرؤى والأخيلة الشعرية. مالك حداد الذي عاش في زمن الاستعمار والحركة الوطنية وانخرط في النضال ضد الاستعمار متخذا من اللغة وسيلة مقاومة، أو ليس هو القائل "أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين أني لست فرنسيا" ولكن فرنسيته لم تكن اختيارا بل اضطرارا، فقد كان لا يعرف اللسان العربي، ومع ذلك اعتبر الثقافة العربية الإسلامية ثقافته الحقيقية وظل يهفو إليها ويحس بالألم العميق أنه ليس قادرا على تذوق جمالها وسبر عمقها  والإفادة من تراثها العريق في الشعر والنثر على السوية. إن كان كاتب ياسين يعتبر الفرنسية غنيمة حرب ويختارها محمد أركون لممارسة الحفر المعرفي والنقد الجذري للفكر العربي وهو يتقن العربية وقرأ كلاسيكيات الفكر العربي متحججا بالطابع التبجيلي في العربية والحمولة الدينية والفراغات المفهومية  ومخافة سوء التأويل من جهة أخرى، فإن مالك حداد ظل يقول بلا كلل "اللغة الفرنسية منفاي". مالك حداد خريج إحدى الجامعات الفرنسية وصاحب الإجازة في الحقوق والذي تفتح وعيه النضالي على الحركة الوطنية وانخرط في النضال ضد الاستعمار منذ نعومة أظافره وسافر إلى المشرق للدعاية للثورة، وفي مدينة حلب السورية تعرف بالشاعر العروبي سليمان العيسى وزوجته ملكة أبيض العيسى التي عربت ديوانه الشعري "الشقاء في خطر" 1979 عام وتكشف هذه العلاقة بين مالك حداد وسليمان العيسى وزوجته عن الحس القومي للكاتب وانخراطه فيه، فالقضية العربية واحدة هي قضية التحرر من الاستعمار وبناء الأوطان على أسس الحرية والعدالة والمساواة والدفاع عن القيم الإنسانية والانخراط في قضية التنوير من أجل غد عربي واعد ومشرق. مالك حداد صاحب الروايات "التلميذ والدرس"، و"سأهبك غزالة"، و"رصيف الأزهار لا يجيب"؛ اختار الصمت بعد الاستقلال، وآثر عنه قوله "تفصلني الفرنسية عن وطني أكثر مما يفعل البحر الأبيض المتوسط"، هل كان يرى أن مواصلة الكتابة بالفرنسية مسألة غير مجدية؟ وأن المستقبل للعربية، وأن الإصرار على الكتابة بالفرنسية هو ضرب من العدمية والخواء، فاللغة ليست مجرد ساعي بريد حيادي بل حمولة فكرية وتاريخية وشعورية.  لم يتنصل مالك حداد من واجباته الثقافية والملتزمة إبان الاستقلال، فقد اختار العمل مع النظام في زمن هواري بومدين، وكان من المؤسسين لاتحاد الكتاب الجزائريين في صيغته الجديدة عام 1974 وقبل ذلك أصدر مجلة" آمال" وهي مجلة تهتم بالكتابات الشابة الواعدة أي أنه عبد الطريق أمام الجيل الجديد من شباب الاستقلال الذي مارس الكتابة الشعرية والسردية بالعربية. لقد اختار غير مالك حداد مواصلة الكتابة بالفرنسية، وعاد بعضهم إلى العربية ثم  عاد إلى الفرنسية من جديد وفي حسبانهم أن الكتابة بالفرنسية تفتح المجال للشهرة والنجومية، ولكنهم لم يحققوا هذه الشهرة وهذه النجومية على الرغم من أن بعضهم اختار الفرنسية لمهاجمة العروبة والإسلام، وتقديم صورة هزلية للتراث العربي الوطني ترضي اليمين الفرنسي، فلم يزدهم ذلك إلا نبذا من المجتمع، ولم نر جوائزهم العلمية التي توهموها فعادوا بخفي حنين. بينما نرى أحلام مستغانمي مثلا تصنع بكتاباتها العربية شهرة عربية وتعاطفا مع المأساة الجزائرية إبان الثورة في روايتها "ذاكرة الجسد" التي قال عنها نزار قباني: "هي تاريخ الوجع الجزائري والحزن الجزائري والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي".  الكتابة بالعربية هي المستقبل في الجزائر، فالفرنسية التي فرضتها ظروف تاريخية  ونخبة متغربة لها مصالحها في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، لم تعد تجد بين الجيل الجديد ترحيبا ولا اعترافا بها، إنها إلى زوال – اللهم إلا دراستها كلغة أجنبية ثالثة بعد الإنجليزية وهذه مطالب الجديد. هناك بل من يربط التخلف والتبعية في بلدنا بهيمنة هذه اللغة وهيمنة خطاب تغريبي يدافع عن مصالح الغير في البلد. من مدينة حاسي بحبح الصغيرة النائية بولاية الجلفة يأتي شاب متعرب هو عبدالوهاب عيساوي 1985 وهو مهندس فيصنع الحدث وينال الجائزة العالمية للرواية البوكر بروايته "الديوان الإسبرطي عام 2020 وفي هذه السنة يواصل شاب آخر تدشين مسار الاعتراف بالكتابة السردية الجزائرية باللغة العربية ذاك هو أحمد طيباوي 1980 من ولاية المدية الحاصل على دكتوراه في إدارة الأعمال الذي توجت روايته "اختفاء السيد لا أحد" بجائزة نجيب محفوظ هذا العام 2021 فماذا يعني هذا؟ أليس يعني أن الحاضر والمستقبل للكتابة بالعربية وأن المبدع الحقيقي هو مبدع بلسان قومه ولا داعي للتحجج بالطابوهات والأصولية كما يفعل بعض أعداء العربية ممن فشل ككاتب وكروائي وكمثقف له احترامه بين الناس.  مالك حداد لم يعد منفيا في الفرنسية، فقد احتفى به المشرق وعرب رواياته وأشعاره وقدر همومه النضالية الوطنية والقومية، ولم يعد كذلك في بلده الجزائر فقد جمعت وعربت نادية قمراوي وهي أستاذة وباحثة من مدينة البليدة مقالاته التي كتبها في جريدة "النصر" الجزائرية التي كانت تصدر بالفرنسية في الستينيات، وقد كان وقتها يشرف على القسم الثقافي، ويعود زمن كتابة هذه المقالات إلى عام 1966.  تقول المترجمة عن سبب جمع وترجمة هذه المقالات الصادرة عن دار الخلدونية بالجزائر: "السبب الذي دفعني إلى جمعها ونشرها لأن القارئ لا يصل إلى الأرشيف بسهولة التي يصل بها إلى الكتاب لكن رغبتي لم تتوقف عند هذا الحد. وإنما تعدته إلى ترجمة هذه السلسلة ووضعها أمام القارئ المعرب الذي أتمنى أن يستمتع باللغة الراقية للكتاب والتي أحب يوما - هو نفسه – أن تصل إلى قارئه بكل حمولتها ودلالاتها". هذه المقالات التي يتخذ فيها مالك من مسقط رأسه قسنطينة منهلا يمتح منه  مواصلا الاحتفاء بمسقط رأسه فيعرف بقسنطينة عبر التاريخ متخذا من جغرافيتها الفريدة مجالا خصبا للكتابة، قسنطينة الباسلة المقاومة زمن الاستعمار مدينة عبدالحميد بن باديس ومالك بن نبي وقد عرج في مقالة على هؤلاء الأعلام. من مقالات الكتاب عناوين هي عتبات تحيل على الاحتفاء واتخاذ المكان مفتاحا للعودة إلى وراء، إلى الزمن القديم في ترابط وانسجام كمقالة مفتاح لسيرتا وقسنطينة عاصمة التاريخ ومقالة ثنائية في الحجر النهر والصخرة وهي مقالة تتخذ من استثنائية الموقع الجغرافي مقالة مكتوبة بلغة شعرية عن جمال المكان ووعورته في ذات الوقت ومقالة تراث المتحف للولوج إلى الحضارات التي تعاقبت على "سيرتا" وهو اسم قسنطينة قديما من بربرية وفينيقية ورومانية وعربية وتركية وفرنسية دون أن  ينسى مالك حداد البحث عن التراث الفني حول المدينة والحفريات التي اكتشفت هذه النقوش والأعمال الفنية كصومعة الخروب وضريح يوليوس، ومقالة حول المدينة حيث يجعل من المدينة العتيقة مساجدها وحاراتها ومقاهيها وشرفات منازلها وحوانيت الحرفيين التقليديين نصوصا تصنع البهجة وتطفح برائحة العبق التاريخي والعراقة الزمانية والمكانية. أفلحت نادية قمراوي في جمع وتعريب هذه المقالات بلغة سلسلة طيعة، وهكذا وضعت أمام الجيل الجديد من طلبة الجامعة ومحبي مالك حداد عصارة فكره وأدبه بعد الاستقلال فلا يؤثر له إلا هذه المقالات فكتاباته السردية والشعرية كانت كلها في زمن الاستعمار، وهي بهذا العمل قد أسدت خدمة إلى المكتبة الجزائرية وإلى طلبة الجامعة وعموم المثقفين من محبي تراث مالك حداد. لعل مقالة "لا تلتفتوا إلى وراء، والتي ختمت هذه المقالات في الكتاب، هي المقالة التي تطفح بالشاعرية والكتابة المحلقة في الخيال الشعري واللغة المجنحة بالرؤى والأخيلة الشعرية فهو يقول: "مفتاح لمدينتي، العملية خطيرة ومتصنعة، مفتاح؟ نحتاج إلى ربطة مفاتيح أبواب الصباح، أبواب المساء، أبواب الأحلام أبواب المستقبل، أبواب النهار، أبواب الليل، نحتاج بالأخص إلى موجه سياحي من الخيال أو شاعر وموسيقار، نحات ورسام أو كاتم أسرار النجوم الذي يشتكي الرمال من عدم انعكاسه على سطحه وتغضب الصخرة من عدم الارتقاء إليه.

مشاركة :