لبنان إلى العتمة... العتمة السياسية أيضا خيرالله خيرالله أهل القدس لم يثوروا في وجه الاحتلال الإسرائيلي فحسب بل ثاروا أيضا في وجه السلطة الوطنيّة الفلسطينية وفي وجه "حماس" التي خطفت ثورتهم وحولت الجلّاد الإسرائيلي إلى ضحيّة بإطلاقها صواريخ من غزّة. العتمة بكل أنواعها تزحف باتجاه لبنان تزحف العتمة على لبنان. العتمة بكل أنواعها، بما في ذلك النوع السياسي. يؤكّد زحف العتمة المستمرّ منذ 12 عاما عندما صارت وزارة الطاقة في يد “التيّار الوطني الحر”، أي حزب رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون وصهره جبران باسيل، أن لا قعر للانهيار اللبناني في عهد الفرص الضائعة. إنّها الفرص الضائعة التي أضاعت لبنان. توقفت أخيرا السفينتان المستأجرتان من شركة تركية عن تزويد لبنان بالكهرباء. زاد التقنين وسيزداد أكثر في بلد مفلس لم يعد لديه ما يسدّد به إيجار السفينتين. تعتبر الكهرباء مسؤولة عن زيادة الدين العام مبلغ 50 مليار دولار! لا حاجة إلى تعداد الأسباب التي تؤكد مدى الانهيار الكامل، بدءا بالذلّ الذي يعيش اللبنانيون في ظلّه وصولا إلى احتجاز أموالهم في المصارف والتصرّف غير المسؤول لكلّ من في السلطة، خصوصا رئيس الجمهورية نفسه، في ما يخصّ جريمة تفجير مرفأ في بيروت. هل يعقل هذا الغياب الكامل لأيّ معلومات واضحة تشرح للبنانيين ما الذي دمّر جزءا من بيروت، وعددا كبير من الأحياء المسيحية تحديدا، قبل ما يزيد على تسعة أشهر؟ هل يعقل إخفاء الحقيقة بهذه الطريقة على اللبنانيين، علما أن الجميع يعرف من وراء استيراد نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت ومن خزّنها ومن هي الجهة السورية التي استخدمتها في صنع البراميل المتفجرة في حرب النظام على الشعب السوري. في ضوء الواقع السائد على الأرض، ليس صحيحا ما ذكره رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع لـ”النهار” حديثا عن أنّه “كان ممكنا أن يكون الوضع اليوم أسوأ من ذلك لو لم نذهب إلى انتخاب عون” رئيسا للجمهورية. قبل كلّ شيء، لا يوجد ما هو أسوأ من الوضع القائم المرشّح لأن يسوء أكثر في ظلّ حال من الانهيار الحرّ الذي لا قعر له. يسمح الانهيار لرئيس الجمهورية بممارسة هوايته المفضّلة المتمثّلة في تشريد اللبنانيين وتهجيرهم من بلدهم. نراه، بكلّ بساطة، يستكمل ما بدأه في العامين 1989 و1990 عندما كان في قصر بعبدا كرئيس لحكومة مؤقتة مهمّتها محصورة بتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل. خاض ميشال عون وقتذاك حربي “التحرير” و”الإلغاء”. ما نشهده اليوم ملحق للحربين اللتين أسفرتا عن هجرة لا سابق لها للمسيحيين الذين ما زال قسم منهم لا يريد أن يتعلّم شيئا من دروس الماضي القريب. لا تزال لدى هؤلاء أوهام تحرّكها الغرائز تجعل منهم يؤمنون بشيء اسمه ميشال عون الذي أثبتت التجارب والممارسات أنّه ليس سوى عبارة عن كتلة من الحقد. الحقد على كلّ نجاح لبناني وحسد من هذا النجاح. كانت الفرصة الضائعة الأولى للعهد، الذي هو عمليا “عهد حزب الله”، عندما وضع كل العراقيل في طريق تنفيذ مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في نيسان – ابريل 2018 في باريس بمبادرة فرنسيّة وبدفع من سعد الحريري في ظلّ شعور بالحاجة إلى إنقاذ البلد. كان “سيدر” الذي يعني أوّل ما يعنيه إجراء إصلاحات جذرية في لبنان ومشاركة بين القطاعين العام والخاص، فرصة لا تعوّض من أجل الحصول على مساعدات وتفادي الإفلاس المالي. تبيّن منذ وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا أن لا أجندة لبنانية سوى أجندة “حزب الله”، الطرف اللبناني الوحيد الذي يعرف ماذا يريد وذلك في ضوء كونه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني ليس إلّا. لم يأت “حزب الله” بميشال عون رئيسا للجمهوريّة من فراغ. كان يعرف تماما، بعد سلسلة اختبارات للرجل ولصهره جبران باسيل، طوال عشر سنوات كاملة، أنّ ليس أفضل منهما لتنفيذ أجندة الانهيار. يعجّل في الانهيار غياب أيّ أمل في تشكيل حكومة. أكثر من ذلك، لم يعد معروفا هل يفيد تشكيل حكومة في شيء في ظلّ الأحداث الإقليمية المتلاحقة التي كشفت مدى جهل العهد بما يدور في المنطقة من جهة ورهاناته الكارثية من جهة أخرى. كيف يمكن لعاقل الرهان على انتصار إيراني في المنطقة وعلى مستقبل سياسي لبشّار الأسد؟ تجاوزت الأحداث مسألة تشكيل حكومة لبنانية تضمّ اختصاصيين موجودة لائحة كاملة بهم لدى رئيس الجمهورية. أفرج ميشال عون عن مثل هذه الحكومة أم لم يفعل ذلك، وهو ما كان مفترضا به عمله قبل أسابيع عدّة، لن يتغيّر شيء في لبنان. لن يتغيّر شيء ما دام “حزب الله”، الذي جرّ لبنان إلى كلّ أزماته مستخدما “العهد القوي” ورغبة جبران باسيل في أن يكون رئيسا للجمهوريّة، مصرّا على أن يكون لبنان ورقة إيرانيّة. لم يعد سرّا أن الإدارة الأميركية الجديدة التقطت تماما ما يدور في لبنان. وهذا ما يفسّر العقوبات التي فرضتها على سبعة من المنتمين إلى “حزب الله” على علاقة بنشاطاته المالية. هل بدأ العهد يعي أن الإدارة الأميركية لم تغيّر موقفها من “حزب الله” ونشاطاته مثلما لم تغيّر موقفها من النظام السوري، بل تبدو أكثر تشدّدا من الإدارة السابقة في ما يخص هذه النقطة بالذات؟ مسكين لبنان حيث رئيس للجمهورية يفتخر عبر تغريدة له بتلقي “رسالة من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة عرض فيها للتطورات الأمنية الأخيرة في ضوء الاعتداءات الإسرائيلية على القدس، وطلب التحرّك العاجل لاتخاذ موقف حازم ضدّ هذا العدوان والإجرام”. يعيش “العهد القوي”، الذي لا يعرف أصلا ما هي “حماس” ومن هو إسماعيل هنيّة، في عالم لا علاقة له بالعالم. لا يوجد فيه من يدرك أن أهل القدس لم يثوروا في وجه الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل ثاروا أيضا في وجه السلطة الوطنيّة الفلسطينية وفي وجه “حماس” التي خطفت ثورتهم وأفرغتها من مضمونها بعدما حولت الجلّاد الإسرائيلي إلى ضحيّة بإطلاقها صواريخ من غزّة. تربط كلمة الجهل بين كلّ تصرّفات العهد الذي لم يترك فرصة إلّا وأضاعها من أجل المحافظة على الأمل بأن يخلف جبران باسيل ميشال عون في قصر بعبدا. من يفكّر بمثل هذه الطريقة ومن يعتقد أنّه ستجري انتخابات من أيّ نوع في لبنان في السنة المقبلة إنّما يراهن على مزيد من العتمة. يراهن خصوصا على العتمة السياسية التي يأخذ “حزب الله” البلد إليها خطوة خطوة بطريقة مدروسة… إعلامي لبناني
مشاركة :