يعيد فوز الروائي الأردني جلال برجس بجائزة البوكر الاعتبار للثقافة وينتصر بالظفر للمثقف المُخْلِص لفنّه، والمخلّص لقارئه من الرتابة، والمُعتني بالهم الإنساني لتخفيف العبء المادي والمعنوي بمتوالية تبعث في الروح طمأنينة بأنك لستَ وحدك، وأن السرد آلية من آليات الاعتناء بالحياة لمزيد من الصمود في زمن الموت المجاني، وفي معمعة أوقات ما بعد الفوز، أتاح برجس لـ«عكاظ» فرصة سانحة للاقتراب من عوالمه الفاتنة، وهنا نص حوارنا معه:• ماذا يعني لكاتب فوز عمل إبداعي بجائزة بحجم البوكر؟•• الفوز بجائزة عالمية مثل البوكر يعني أن تسقط على الرواية بقعة شمس ساطعة تجعل فعل القراءة موجّه نحوها، نحو الكلمة التي تبدو لي مثل طائر كل منا يراه من زاويته. إن أهم ما يمكن نيله من جائزة بحجم الجائزة العالمية للرواية العربية هو اتساع رقعة مقروئية الكاتب وهذا ما نريده لأجل أن تكون للكلمة مكانتها التي تستحق، إضافة إلى طريق الترجمة التي تفتح آفاقاً نحو القارئ الآخر.• هل شخّصت دفاتر الوراق حالة الفصام الثقافي بين واقعية المثقف وخيالاته أو مثاليته؟•• في هذه المرحلة الصعبة عالميًا أؤمن أن نظرة المثقف من نافذة خياله هي الأكثر واقعية، وأن مثاليته هي الحل الأقدر على تفادي كثير من السهام التي توجه إلى صدر إنسانيتنا، فلننظر حولنا لنرى حجم التبدلات التي حدثت، ولنرى كيف صار الموت مجانياً، وفي المقابل ما تزال الحياة تنتظر من يناصرها. النظرة العميقة لما حولنا، والتفكر بالماضي، والتحديق بالمستقبل كل ذلك يمكن أن يؤدي بالكاتب إلى الكتابة التي ترصد واقع الإنسان من مختلف أبعاده، هذا الرصد لم يكن ليتكون لولا ما يراه الكثير مثالية وخيالية. إن دفاتر الوراق تراكم لكل تلك المشاهدات والتأملات والأحلام حيال واقع صعب، فقلت كلمتي روائياً. في الرواية لا يمكن أن نقدم حلولاً إلا أننا نطلق الأسئلة، ونلقي الضوء على الجرح والوردة.• إلى أي مستوى نجحت بالمقاربة السردية في تسليط الضوء على واقع الثقافة العربية؟•• حين أقف على مبعدة من نصي وأجد أنيَّ القارئ وليس الروائي فإن أكثر ما يلح عليّ من فضاء دفاتر الوراق هو (كشك الوراق) الذي أزيل من مكانه واستبدل بمتجر لبيع الهواتف النقالة. أرى ما قرأ إبراهيم، وما كتب، وما كان يفكر به. وحين أجدني قد عدت إلى الروائي فإني أعثر على ما كنت أهجس به طوال كل تلك السنين حيث المثقف خارج أولويات الحكومات والدول والمؤسسات الأهلية، لذا أعتقد أنني قد نجحت في تلك المقاربة السردية لواقع الثقافة العربية التي نتمنى أن تتصدر سلم أولوياتنا لا أن تكون خارج هذا السلم.• متى تتصالح السينما مع هذا النوع من الكتابات المؤهلة لتوسيع دائرة الوعي؟•• أتمنى أن تلتفت السينما للرواية بشكل عام وإذا ما فعلت ذلك سيكسب المشاهد نصاً سينمائياً غاية في الجودة وفيه الكثير من المعرفة التي لا تقدم بقالب جامد. أعتقد أن الكرة في مرمى صناع الدراما هذه الأيام وعليهم أن يلتفتوا إلى العديد من الروايات القابلة للتحول إلى أعمال درامية لكن من غير أن تهشم الرواية وفكرتها. لقد تراجعت السينما العربية أخيرًا وباتت تنحاز إلى الزاوية التجارية ومن هنا قرع ناقوس الخطر، حيث إن فن السينما قادر على تشكيل الوعي الإنساني، وبما أن الرواية باتت فضاء لكل أشكال الأدب والفن فاستعارت كثيراً من تقنيات السينما فإنها في هذه المرحلة قابلة للاشتغال عليها درامياً.• كيف تفاديت بالرمزية إشكالية سخط المثقف على الرواية؟•• الكتابة عموماً، وخصوصاً الكتابة الروائية إن خضعت للتابوهات المتعارف عليها أو التابوهات التي نفكر بها مثل خشيتنا من غضب المثقف حيال تلك المحاولة من مقاربة واقعه فإننا لن نكتب، وإن فعلنا ذلك ستكون كتابة عرجاء. يمر المثقف في هذه المرحلة بواقعه الصعب الذي جعل منه في نظر الكثير كائنًا عصابيًا. لا نصير للمثقف إلا المثقف حين يُعلي من قيمة الثقافة بمفهومها الإنساني القادر على التغيير.• أين نجد جلال برجس في هذا العمل؟•• أقر بأن الروائي –أي روائي- لا بد أن يتواجد في نصه لكن ليس من الضروري أن يكون هو الشخصية الرئيسية. أما عني فأعتقد أنني موجود في روح العمل برمته لأن هذه الرواية تشكلت في مخيلتي بناء على ما حولي وفي ذاكرتي وذلك على مدار أعوام طويلة. لكن في نهاية الأمر من الصعب حيال سؤال مثل هذا أن أقدم إجابة قاطعة. ربما أكون من دون أن أعي إحدى شخصيات هذه الرواية التي أسعى لنسيانها لأكتب غيرها، وربما لا.• ألا يسهم تعدد الاهتمامات بضعف المنتجات؟•• على الإطلاق لن يؤدي-إذا ما تعامل الكاتب بوعي مع اهتماماته- إلى ذلك الضعف، الأمر مرهون بالتعامل الذكي، أو دعنا نقول مهارة الميزان. أكتب الشعر، والقصة، والمقالة، وأدب المكان، ولدي كثير من الاهتمامات الثقافية والموسيقية لكني عند لحظة الكتابة الروائية فإني لا أستعير من تلك الاهتمامات إلا ما أراه يمنح الرواية حيويتها وتعدد أبعادها.• لماذا أخفقت مشاريع وطموحات الثقافة العربية؟•• أولًا دعنا نطلق سؤالًا آخر يرتبط بسؤالك: هل تبنت الثقافة العربية رؤية عميقة تأخذ من التراث ما تم إعادة إنتاجه بما يتوافق مع إيقاع الزمن، ورؤية عميقة للحاضر تذهب إلى المستقبل؟ من هنا يمكنني القول إن الثقافة العربية أخفقت جرّاء غياب هذه الرؤية رغم نشوء بعض الرؤى المهمة التي لم تجد روافع لها فسكنت، لهذا هزم جانب كبير من المبنى الثقافي العربي أمام ما أفرزته التحولات العالمية منذ عام 1990.• هل من مشروع سردي لجلال تصوره وبدأ الشغل عليه؟•• نعم في جعبتي عمل روائي انخرط في البحث والقراءة لأجله، وأنتظر اللحظة المناسبة لكتابته، عمل لا ينفصل عن مشروعي الروائي. ليس تتابعاً لسلسلة، إنما لثيمة حركت أدواتي في الكتابة منذ زمن بعيد.• ما أبرز قراءتك للمشهد الثقافي السعودي وماذا لفت انتباهك من أعمال؟•• في الرواية قرأت للراحل غازي القصيبي، ولعبده خال، ولكثير من النتاجات السردية السعودية التي لها ميزاتها الخاصة، هذه الميزات التي لم تغفلها الروايات السعودية التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة. وفي الشعر قرأت للراحل محمد الثبيتي صاحب التجربة الاستثنائية الذي كان لديه فهم عميق للحداثة الشعرية. أحد أهم ما أفرزته مرحلة ما بعد الحداثة أنها ألغت المركزيات خاصة الثقافية فصار الإنسان بحد ذاته مركزًا، من هنا تُفاجئنا أعمال روائية في غاية النضج من كتاب لا نعرفهم من قبل، والمشهد الروائي السعودي خير مثال على ذلك.< Previous PageNext Page >
مشاركة :