أطلقت المملكة العربية السعودية الأيام القليلة الماضية مبادرة الرياض التي تؤسس لمنصة عالمية تربط أجهزة مكافحة الفساد لتبادل المعلومات حول العالم، الأمر الذي لقي استحساناً إقليمياً وعالمياً. يعن للقارئ غير المتخصص في عالم المال والأعمال، عطفاً على مناورات ومداولات أصحاب رؤوس الأموال، أن يتساءل: ما الهدف الذي تسعى المبادرة السعودية إلى تحقيقه على الصعيد الأممي؟ يمكن القطع بأن المملكة من خلال خبرائها الاقتصاديين وقانونييها البارعين، باتوا على معرفة وثيقة بإشكالية الفساد وجرائمه عبر الحدود، ما يعني حتمية العمل بين سلطات إنفاذ القانون في كل دول العالم. ولعله من المؤكد كذلك أنه بدون إعلان حرب حقيقية على الفساد، فإن أهداف الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية المستدامة في العقود القادمة، لن تجد طريقها إلى التنفيذ بشكل أو بآخر. والثابت كذلك أنه حين تغيب التنمية، من جراء الفساد المالي والإداري، فإن سبل تعزيز السلام بدورها تتضاءل، وتكثر احتمالات الحروب، ناهيك عن خفوت المقدرة على حفظ كرامة الإنسان وحقوقه. يمكن القطع بأن أهداف المبادرة السعودية الأحدث، هي ضمن عدد كبير من الرؤى التنويرية التي تطرحها المملكة، بهدف حماية البشر والحجر، والحفاظ على المناخ العالمي من التطورات الخطيرة، وتتصل اتصالاً وثيقاً بتعزيز التعاون الدولي المشترك في إنفاذ القانون بين الجهات المختصة بمكافحة الفساد، بالإضافة إلى تطوير أداة سريعة وفعالة لمكافحة جرائم الفساد العابر للحدود. ضمن الأسئلة التي تطرح ذاتها بذاتها في الأوقات الأخيرة: هل من حدث بعينه جعل منظومة الفساد تنمو بصورة سريعة ومخيفة؟ في مارس (آذار) الماضي صرحت وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، والمدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، الدكتورة غادة والي، بأن تكلفة الفساد على الاقتصاد العالمي تقدر بنحو 3 تريليونات دولار سنوياً، وأنه مع انتشار فيروس (كوفيد - 19)، تحول الوباء من أزمة صحية، إلى عدة أزمات اجتماعية وإنسانية كبرى، حيث نشطت عصابات الجريمة. ويخبرنا المدير الإداري في منظمة الشفافية الدولية، دانيال إريكسون، بأنه من سوء الحظ، شكل الوباء فرصة ذهبية للحكومات الفاسدة، ما يعني أن النكبة الوبائية انقلبت إلى ضربة حظ للفاسدين النافذين الذين لم يتوانوا عن اختلاس المال وتكديسه في حساباتهم الشخصية من غير رادع قانوني، أو وازع أخلاقي. ولعل الناظر إلى ما جرى للثروات الشخصية خلال الستة عشر شهراً الماضية، يمكنه أن يوقن بأن هناك من تراكمت أرصدتهم بشكل غير عقلاني، ما يعني وجود من سخّر الأزمة عبر دروب الفساد لصالحه ومصالحه، ما انعكس سلباً ولا يزال على الكثيرين حول العالم، لا سيما في العالم النامي بنوع خاص. هل الفساد ظاهرة جديدة على صعيد المال والأعمال انتبه العالم إليها الآن وجاءت المبادرات لقطع الطريق عليها؟ يعرف الجميع أن الفساد آفة قديمة قدم ظهور الأنظمة والحكومات، وقد نخرت في اقتصادات العالم طويلاً عبر الوسائل التقليدية من سرقة ورشاوى وكافة الآليات غير المشروعة. غير أن مشهد العولمة المعاصر، وأدوات التواصل المالي المعولمة، فتحت الأبواب أمام طرق حديثة من التحايل على القوانين، وتجاوزها، وباتت الجرائم ترتكب في الفضاء السيبراني حيث يسهل تحقيق الصفقات الموصولة بالأموال السوداء، من غير رقيب يتابع، ويحقق ويدقق. لم يعد الفساد والعالم في بدايات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وقفاً أو حكراً على دولة بعينها أو قارة بذاتها، فبالقدر نفسه صار متفشياً في الدول النامية والدول المتقدمة معاً. الذين تطالع أعينهم أحدث التقارير عن شأن الفساد العالمي، تلك الصادرة عن «منظمة الشفافية الدولية»، يرون كيف أن الفساد يستشري في أكثر من ثلثي دول العالم، وأن مسؤولين نافذين كباراً حول العالم، عادة ما يكونون هم وراء ذلك، حيث يستخدمون صلاحياتهم ومناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية، حتى إن استغلوا الأزمات الكبرى التي تهدد بلادهم ومواطنيهم. ثمّن العالم المبادرة السعودية، وفي المقدمة الأمم المتحدة التي اعتبرت أن ما قامت به المملكة يؤسس لمنصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم، وأن هذه الشبكة العالمية ستوفر أموالاً مهمة لمواجهة تداعيات وباء «كورونا». الأمين العام أنطونيو غوتيريش بدوره أثنى على مبادرة الرياض مندداً بالفساد معتبراً إياه «عملاً لا أخلاقياً وجريمة خطيرة عابرة للحدود». على أن نجاح شبكة مكافحة الفساد، وهذا ما وضحته بشكل كافٍ بنود المبادرة، مرهون بالحوار بين الشركاء، وتقديم الإرادات السياسية على أي إجراء آخر من أجل الخلاص من هذا الكابوس المخيف، وبجانب ذلك السعي في طريق سيادة وريادة منظومة الشفافية، وإعمال أدوات المساءلة والمحاسبة، فضلاً على الدور الرائد الذي يتوجب على وسائل الإعلام التقليدية والحديثة كوسائط التواصل الاجتماعي أن تلعبه، ومن غير أن نهمل التعليم كأداة رئيسية في تجذير المكافحة في نفوس الأطفال. المبادرة السعودية... خطوة أممية لمحاربة الفساد.
مشاركة :