لا شك أن الرأي الذي يفتقد للصراحة لا يفيد، أما الرأي الذي يطرح بأسلوب الوقاحة فهو مضر؛ الصراحة تتطلب الموضوعية، أما الوقاحة فتتطلب توفر مهارة الاستهزاء والقدرة على الهروب من الموضوع إلى صاحب الموضوع للهجوم عليه. يفعل ذلك من ليس لديه القدرة على النقاش الموضوعي ولديه أسبابه الخاصة لشخصنة النقد أو النقاش بحثا عن جمهور يصفق لقاصف الجبهات! وهنا سؤال: هل اختلافنا مع الآخرين في الرأي يعطينا الحق في إهانتهم والسخرية منهم، وشتمهم والدعاء عليهم؟. إن إبداء الرأي حق لكل إنسان بل هو واجب حين يتعلق الأمر بالمصلحة العامة، من يملك الخبرة والمعرفة لا بد أن يساهم برأيه في حل مشكلة معينة أو طرح رؤية للمستقبل، وقد يتطلب الأمر في ظروف معينة أن تطرح الآراء والحلول بأسلوب صريح حاد مثير للانتباه لكنها آراء تستند الى الحقائق وتلتزم بالموضوعية. هذا النوع من الطرح هو المطلوب للتطوير والتغيير وتقديم الحلول، في بعض الأحيان تطرح آراء تستحق الدراسة ولكن تضيع قيمتها وتأثيرها بسبب الطريقة التي طرحت فيها، وقد يحدث العكس حين نحتفي بآراء ضعيفة بسبب طريقة طرحها أو بسبب صاحبها. هناك من لدية القدرة على إبداء ملاحظة قد تكون حادة ولكنه يطرحها بطريقة مؤدبة، يحضرني في هذا المقام تعبير ورد في كتاب (الوزير المرافق) للمرحوم بإذن الله الدكتور غازي القصيبي، وهو كتاب شيق سجل فيه انطباعاته الشخصية عن رؤساء الدول والحكومات الذين رافقهم، يسجل عن أحدهم انطباعا لكنه لا يجزم بهذا الانطباع بل انه يعطي القارئ فرصة للشك في هذا الانطباع، يقول الدكتور غازي: (لابد أن هناك شيئا ما مكن هذا الرجل من القفز على السلطة والاحتفاظ بها قرابة عقد من الزمان. لا بد أن يكون هناك شيء من الدهاء السياسي أو الجاذبية الشخصية. لا أستطيع أن أقول ان الرجل يفتقد الى هذا كله. كل ما أستطيع قوله انني خلال الفترة القصيرة التي راقبته فيها فشلت في اكتشاف أي موهبة.) نلاحظ من كلام الدكتور غازي أنه لم يقطع بعدم وجود موهبة بل ينسب الفشل الى نفسه في عدم قدرته على اكتشافها وهذا يعني احتمال وجود مواهب لكن المدة القصيرة لم تكن كافية لاكتشافها. ان كثيرا من الحوارات في مواقع العمل أوفي البيوت أو في الندوات والمؤتمرات لا تفشل بسبب اختلاف الآراء وانما بسبب الكيفية التي يطرح بها الرأي. حين يبدأ أحدنا حواره مع الآخر بتصنيفه ثم يسرد ما يؤكد هذا التصنيف فهذه محاولة للهروب من موضوع النقاش بسبب ضعف الحجة. ان من يملك الحجة والحقائق ليس بحاجة الى شخصنة النقاش أو رفع الصوت. في مسالة توجيه الانتقاد لعمل معين، أيهما أفضل أن نصف صاحب العمل بأنه جاهل أو غير مسؤول، أم نضع الأداء تحت مجهر التحليل الموضوعي ونبين الأخطاء ونقاط الضعف بالأدلة والبراهين؟ في مسألة التوجيه، إذا رأيت سائق سيارة يضع طفلا في حجرة وهو يقود السيارة، أو يضعه الى جانبه دون ربط حزام الأمان، هل ستصرخ فيه وتقول له: أنت غبي، أنت المفروض تمنع من القيادة، أم ستبين له بهدوء مخاطر تصرفه على الطفل، وأن هذا التصرف مخالف لقوانين المرور؟ وهل سيتقبل السائق النصيحة بالطريقة الأولى أم الثانية؟ في مسألة التربية، كيف يتعامل الكبار مع الأطفال في البيت والمدرسة؟ هل نقول للطفل: هذا الخطأ يدل على أنه لا أمل فيك، أم نتحاور مع الطفل حتى نصل معا الى التعرف على الخطأ بطريقة غير مباشرة وغير مؤذية للطفل؟ هل نبدأ التوجيه والانتقاد بصفحة الإيجابيات أم بصفحة الأخطاء؟ هل نبدأ بنقاط القوة أم بنقاط الضعف؟ في بيئة العمل أضعكم أمام حالة إدارية افتراضية، عقدت احدى الجهات مؤتمرا علميا كبيرا، بعد المؤتمر اجتمع رئيس الجهة المنظمة للمؤتمر مع رئيس اللجنة المنظمة لتقييم العمل، المؤتمر نجح بنسبة 80% حسب تقييم المشاركين، إليكم موقفين لرئيس الجهة: 1- بدأ الرئيس حديثه قائلا: أشكرك وزملاءك أعضاء اللجنة المنظمة على جهودكم التي كان لها دور كبير في نجاح المؤتمر، وحيث أننا نسعى الى الأفضل دائما فسوف أزودك ببعض الملاحظات التي من المهم أخذها في الاعتبار في المستقبل حتى نصل الى أعلى نسبة من النجاح. 2- بدأ الرئيس حديثه قائلا: كنا نتطلع الى مؤتمر ناجح وكان كثيرون ينتظرون هذا الحدث العلمي المهم لكن لجنتكم مع الأسف خيبت توقعاتنا وأحرجتنا أمام الآخرين، لجنتكم فشلت في تقديم المؤتمر بالصورة المطلوبة. في مسألة نقد الشأن العام، النقد متاح للجميع، لكن التأثير ليس في قدرة الجميع، النقد المؤثر هو النقد الذي يستند الى المعلومات والحقائق. أما النقد الانشائي أو النقد الذي يهاجم الأشخاص بدلا من أدائهم فهو نقد قد يحقق الاثارة لكنه لا يحقق الفائدة، لا يبني بل يهدم لأنه لا يشخص ولا يحلل ولا يقدم الحلول. النقد مطلوب في كل المجالات بحثا عن الأفضل وهو مفيد إذا التزم بشروط النقد وأخلاقياته، لنقل رأينا بصراحة وليس بوقاحة فالصراحة مفيدة والوقاحة قلة أدب، الصراحة تتطلب إبداء الرأي بطريقة إيجابية تحترم رأي ومشاعر الآخر، الصراحة هي قول الحقيقة بدون مجاملة باسلوب ينم عن الاحترام، الوقاحة هي أن يقول المدير للموظف (أنت فاشل، ولا أمل لك بالنجاح) والصراحة هي أن يجتمع معه ويناقش معه ملاحظات معينة، والنقاط التي يجب أن يركز عليها كي يتطور. في السياسة نجد أحدث الأمثلة على الوقاحة تتمثل في تصريحات المرشح الجمهوري للرئاسة في أمريكا دونالد ترامب في تصريحاته الجاذبة للإثارة البعيدة عن المنطق القريبة من الغطرسة والغرور. في كل مجال لن تحقق الصراحة أهدافها إذا دخلت منطقة الوقاحة.
مشاركة :