فى سنة ١٩٧٢صدرت الطبعة الأولى من «المرايا»، عمل نجيب محفوظ الفذ، قبلها بشهور كانت الرواية نشرت فى مجلة الإذاعة والتلفزيون على حلقات، حين كان رجاء النقاش رئيسًا للتحرير وكان أحمد كمال أبو المجد رئيس مجلس الإدارة بحكم ترؤسه اتحاد الإذاعة والتليفزيون، الذى تصدر عنه المجلة، وكان رجاء رئيس التحرير المتميز والموهوب سعى لنشر «المرايا»، إثر علمه باعتذار رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل عن عدم نشرها، وعاتب محفوظ عبر صديقهما توفيق الحكيم إن قدم مثل هذا العمل للنشر، لكن كان من حسن حظ الكتاب والمبدعين أن ما لا تحتمل صحيفة يومية نشره، يمكن أن يمر فى مجلة أسبوعية، وما لا تطيقه مطبوعة سياسية، شبه رسمية أو رسمية بالفعل، تتقبله مطبوعة ثقافية وفنية فى المقام الأول، حتى لو كانت تصدر عن جهة حكومية. ويحسب لهيكل أنه لم يعتبر نشر العمل فى مطبوعة أخرى مساسًا بجريدته أو به شخصيًّا، ولا أخذها رجاء مزايدة على رئيس التحرير الذى تردد فى النشر، نجيب محفوظ لم يطنطن بالأمر، لم يتحدث عنه إلابعدها بعقود وفى سياق حديث عن ذكرياته، ببساطة لم يحاول أى طرف اختلاق أو افتعال أزمة أو معركة وهمية، كانوا كبارًا وكانوا على قدر المسؤولية، رحم الله الجميع. «المرايا» سجل بخمسين شخصية قابلهم الراوى فى حياته واحتك بهم جيدا، وينقسمون إلى أجيال ثلاثة وربما أربعة، جيل الطفولة، قبل الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة١٩، ثم جيل الثلاثينيات وحتى سقوط النظام الملكى، ثم جيل ثورة يوليو وحتى هزيمة ٦٧ وما بعدها بقليل، الراوى الذى هو نجيب محفوظ نفسه عاصر هذه الحقب الثلاث، ويعنينا منها تعامل شخوص المرايا مع الحدث الجلل وما بعدها، أى هزيمة الخامس من يونيو، وهو يقدم مشهدًا غاية فى العمق الإنسانى والوطنى، وصريحًا الى أبعد حد، ولعل هذا ما جعل الأستاذ هيكل يتردد فى النشر. الواضح من الأحداث أنها لا تصل إلى لحظة وفاة الرئيس عبد الناصر، إذ إن الوقائع تتوقف عند اكتمال إعادة بناء القوات المسلحة والتمكن من مواجهة هجمات إسرائيل والرد عليها، والحديث الواثق عن ضرورة استرداد الأرض. سوف يقابلنا موقف الشامتين فى النظام كله، ومعظمهم من أضيروا من ثورة ٥٢، وهناك من شعروا باليأس الشديد وراحوا يلعنون كل شىء، وعمومًا شهد الواقع بعضًا من تلك الحالات، واقعة اللواء محيى نوح، أحد أبطال مجموعة الشهيد البطل إبراهيم الرفاعى، وكان وقتها ضابطًا شابًّا مع موظف سنترال التليفون- تؤكد ذلك، جرت الإشارة الرمزية لها فى فيلم «الممر»، وحكى هو تفاصيلها المؤسسية فى لقاء تلفزيونى مع زميلنا الإعلامى بالتلفزيون المصرى أيمن عدلى. وكان هناك الانتهازيون واللا مبالون، مثل «عباس فوزى»، ذلك الموظف الانتهازى، الذى نال المكاسب والترقيات الاستثنائية فى حكومات ما قبل يوليو ٥٢، فقد تقرب من الوفد ومن حكومات أحزاب الأقلية، وأمكن أن يعيد تدوير نفسه مع الحكام الجدد بعد خروج الملك وسمح له بالكتابة فى الصحف ولمع اسمه ونال مكاسب مادية بعد أن اتجه إلى الكتابة فى الإسلاميات وقد وجدها مربحة، لكن بقيت فى حلقه غصة جعلته حانقًا على النظام و«سعد» بالهزيمة، مشكلته أنه لم يُنتخب عضوًا فى مجمع اللغة العربية، ظل المجمع عصيًّا عليه، فاعتبرها إهانة كبرى، حنق على النظام السياسى وكره الوطن، وحين وجده الراوى حزينًا ومهمومًا من جراء ما جرى فى الخامس من يونيو، تهكم عليه قائلًا: «شاب شعرك ولم تتعلم الحكمة بعد»، ثم تساءل بسخرية: «هل ثمة فارق حقًّا بين أن يحكمك الإنجليز أو اليهود أو المصريون؟!». ونجد «عباس فوزى» نفسه فى حوار آخر مع «صبرى جاد» خريج الفلسفة الشاب، جرى تعيينه فى المصلحة أواخر «عام النكسة»، وهو متحمس، سأله عباس فوزى محتدًّا أثناء حوار بينهما.«والوطن أمازلتم تحبونه؟» والرد المتوقع نعم، فيعاود السؤال «وإسرائيل هل تودون محاربتها؟» ويأتيه الرد مفحمًا ومتهمًا أيضًا «نحن الذين سنحرر الوطن بدمائنا، الوطن الذى تسببتم فى هزيمته..»، ويحاول عباس التنصل من الاتهام بالقول «ليس جيلنا الذى يحكم». سوف نجد كذلك شخصية عيد منصور، الذى عرفه الراوى من الطفولة، كره التعليم وعمل بالتجارة، حقق ثروة طائلة من العمل مع معسكرات الاحتلال البريطانى؛ لذا كره الوفد بشدة حين ألغت حكومة النحاس معاهدة ٣٦، ومنعت التعامل مع معسكرات الإنجليز، لأنها أضرت تجارته، كان ذلك سنة٥١، ثم قامت ثورة يوليو، التى لم تمسه فى شىء، بل أتاحت له الكثير من الفرص وحقق المزيد من الثراء، هؤلاء الذين كانوا بلا موقف سياسى يتواءمون مع أى وضع، هكذا كان هو، لكنه عاش يحلم بعودة الإنجليز، توهج حلمه أثناء العدوان الثلاثى سنة ٥٦ وجلس ينتظر قدوم جنود الإنجليز إلى القاهرة، لكن خاب أمله، وتجددت أحلامه مرة أخرى وتطورت، بعد النكسة، يقول عنه محفوظ «استرد أنفاسه فى يونيو ٦٧، ومع أنه راقب الأحداث التالية للهزيمة بدهشة وذهول، إلا أنه لم يفقد الأمل هذه المرة، وقال لى بشماتة: -لا مفر. وقال أيضًا: - طبعًا سمعت عن صحوة الموت! كانت الشهور التالية على الحرب مباشرة قاسية، وزاد من قسوتها ما أعلن فى صيف سنة ٦٧عما أطلق عليه «مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر»، فقد زادت الناس إحباطًا، لكن خوض حرب الاستنزاف ثم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض على الجبهة، قدم دليلا على جدية الدولة وإصرار القوات المسلحة على استرداد الكرامة. تحدثنا الرواية عن أن أشهرًا مرت بعد النكسة ثم عامًا وعامين وثلاثة، خلالها «تحسنت الأحوال وصلبت الإرادة وتجددت الآمال»، أما عيد منصور فبقى على موقفه يستمع الإذاعات المعادية ويردد الشائعات المغرضة، ويؤكد أنه لا أمل وأنها صحوة الموت، ولما وجد نفورا لدى الجميع من سلوكه ومنه عمومًا، قال للمحيطين به والراوى أحدهم «لا وطن بعد اليوم إلا وطن المصالح، فإما أن تكون أمريكيًّا وإما أن تكون سوفيتيًّا»، ويقول عنه الراوى: «أصبح حلمه الذهبى أن تسيطر أمريكا على الشرق الأوسط، وأن تحدد له مدارًا حضاريًّا فى مجالها الحيوى يلعب فيه العرب واليهود دورًا متكاملًا». واضح أن المقصود بكلمة اليهود هنا، الإسرائيليون، لم يكن ممكنًا أن تكتب وقتها مباشرة، أى أنا بإزاء حلم التعاون (هذا غير التطبيع) والتكامل، لدى بعض الأفراد، وإن كان عددهم محدودًا، فقد كانوا موجودين. الشباب فى «المرايا» كانوا من أنصار ضرورة الحرب لاسترداد الكرامة، لكن نجد موقفًا لموظفة عادية نالت البكالوريا بعد الحرب العالمية الثانية، ابنتها متزوجة من ضابط، ولديها ابن طبيب وآخر مهندس، أسرة عادية من ملايين الأسر، تسأل الراوى حين تلقاه: خبِّرنى ماذا عن الموقف، حرب أم صلح؟ يقول هو «بسطت راحتى فى عجز عن الجواب». الحرب أم الصلح (السلام)، كان هو السؤال المطروح على الجميع وقتها، وكل الاحتمالات كانت واردة، سوف نجد ذلك فى عمل آخر لمحفوظ، هو «حكاية بلا بداية ونهاية»، صدرت سنة١٩٧١، تحديدا فى قصة«عنبر لولو»، تسأل الفتاة الرجل العجوز، هل تستأنف الحرب؟، فيرد: من يدرى؟، فتعقب هى: الكلام عن ذلك لا ينقطع. يكمل هو: وهو ينتهى حيث يبدأ. والمعنى أن حديث عبد الناصرالمباشر والصريح، فى بيان٣٠ مارس ١٩٦٨، عن عدم استبعاد فكرة الحل السياسى (السلام) واستعادة الأرض المحتلة بالعمل السياسى، مع ضرورة الاستعداد العسكرى وامتلاك قوة جاهزة للعمل فى أى وقت، لم يكن ينطلق من فراغ، ولم يكن بعيدًا عن الشارع المصرى وإحساس المواطنين بحجم الأزمة التى مرت بهم، وهذا ما سيقود الى أزمة، فيما بعد عبدالناصر، عام٧٢، وكان عنوانها «اللاحرب واللاسلم». لم يكن البيان منفصلًا عن الشارع ولا كان منفصلًا عن الكواليس السياسية بين مصر والقوى الدولية، حيث كان الحديث عن الحل السلمى قائمًا. والحديث متصل.
مشاركة :