عقارب الساعة تشير إلى تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، هزيم رعد الواقع الأمني المتردي، وصرير ريح التصريحات السياسية اللامسؤولة، ينذران بقدوم شيء ما أستشعره ولا أبصره، نباح الكلاب البعيدة وضوء المصباح الخافت يضفيان على الأجواء مسحة دراماتيكية كئيبة تشي بأسرار أخفيها ولا أكاد أبديها، لولا صورتا طفلتين يتيمتين وضعتُهما أمامي لا شعورياً يضيء وميض التفجيرات المتقطعة وجنتيهما المتوردتين بين الفينة والأخرى تهيبان بي لفعل شيء ما؛ نظم قصيدة، رسم لوحة، كتابة مقال، ذرف دمعة، طفلتان يتيمتان لا يتجاوز عمر أكبرهما سناً الخمسة أعوام، الأولى كأنها ملاك يطير، اسمها عبير، والثانية كغصن بانٍ، اسمها بنان.. اختُطفتا.. اغتُصبتا.. قُتلتا بدم بارد خلال شهر واحد في مدينة البصرة، جنوبي العراق! الصورتان استدعتا إلى ذاكرتي الحبلى مأساة تمتد كعش غراب من زاخو إلى الفاو لأطفال لم تعُد مأساتهم قاصرة مع ما يكتنفها من آلام وأحزان على غياب الأب أو الأم أو كليهما معاً بالوفاة أو الطلاق، بل استفحلت -وبشكل مخيف ينذر بأسوأ العواقب- لتشغل حيزاً قاتماً ورقماً صعباً في جميع الملفات الشائكة المعنية بحقوق الإنسان.. تسول، تشرد، نزوح، نشل، إدمان، اختطاف، دعارة، عمالة أطفال، تسرب مدرسي، أمية، إعاقة، تجارة أعضاء، معسكرات تابعة لميليشيات مسلحة، عنف أسري، بل سجن واعتقال أيضاً. لم يكن أمامي في تلك الدقائق العصيبة سوى أن أمتطي صهوة قلمي لأشق غبار الكلمات، وميداني هذه المرة ساحة حرب محلية وإقليمية تشن ضد الطفولة في عراق اليوم، لم يكن الـ13 رضيعاً ممن ماتوا حرقاً في قسم الخدج داخل مستشفى اليرموك، غربي بغداد، واختفاء واختناق آخرين بفعل فاعل، وتقييد الجريمة ضد مجهول أولها، ولن تكون طفلتا "باب الخان" في مركز كربلاء آخرها، حين فض ذئب بشري يعمل بائعاً متجولاً للمشويات بكارتَيهما يدوياً؛ الأولى تبلغ من العمر خمسة أعوام، والثانية ستة أعوام، ولولا كاميرات المراقبة التي رصدت الجريمة الثانية لكرَّر الذئب فعلته النكراء مع ضحية أخرى بعمرهما في المستقبل المنظور، بعيداً عن الأضواء المسلطة على مسرح الجريمة. كنت أقف مقابل مستشفى الأطفال في منطقة الإسكان، بجانب الكرخ من بغداد؛ حيث يقبع مئات منهم في ظروف صحية سيئة للغاية -فقر دم حاد، لوكيميا، سوء تغذية، تقزم، جفاف، إسهال حاد، هزال، ربو، مرض السكري النوع الأول، حوادث مرورية- في ظل خدمات صحية متدنية من جراء سياسات التقشف المتبعة حكومياً، حين اتصل بي أحد المراسلين من كركوك؛ ليخبرني بوفاة الطفل فهد رعد البياتي، في مستشفى المحافظة العام، بعد تعرضه إلى ضرب مبرح من قِبل زوجة أبيه، ما أسفر عن إصابته بجروح خطيرة وانفجار أحشائه، فترنمت عبر الهاتف لا إرادياً بأبيات للشاعرة الدمشقية ماري عجمي، كانت قد رثت بها أمير الشعراء: هزوا الغصون لعله نائم ** سكران في عش الهوى حالم انتقالي إلى مستشفى "ابن الهيثم" للعيون وسط العاصمة لمتابعة 85 حالة إصابة خطيرة لأطفال تهددهم بالعمى من جراء اللعب بالأسلحة البلاستيكية خلال عيد الأضحى، توزعت بواقع 42 إصابة في المستشفى المذكور، إضافة إلى مستشفيات الفياض، والصدر، والكندي، والزعفرانية، لم يكن أفضل حالاً من سابقه؛ إذ اتصل بي مراسل ثانٍ من إسطنبول هذه المرة ليخبرني بأن البحث ما زال جارياً عن ثلاثة أطفال عراقيين مفقودين من عائلة واحدة كانت قد فرت من جحيم العراق الأزلي، وهم في سن الثانية والرابعة والسادسة، بعد العثور على جثة رابعهم البالغ من العمر ستة أعوام على أثر انقلاب قارب كان يقلهم في نهر الدانوب تجاه الساحل الروماني، تلاه اغتصاب طفلة عراقية في الثامنة من عمرها بكامب للاجئين في برلين، ومقتل والدها الغاضب برصاص الشرطة هناك بعد محاولته طعن الباكستاني "طياب" الذي اعتدى عليها، فقفزَت إلى ذهني من دون وعي مني صورة غريق "قضاء النعمانية"، وسط النهر في واسط، البالغ من العمر 10 سنين، بسبب غياب المسابح النظامية ما يُلجئ الأطفال إلى النهر وغرق العشرات منهم خلال الصيف القائظ سنوياً. لا شك أن مخيمات النازحين والعشوائيات في طول البلاد وعرضها تعد البيئة الأخطر على حياة الأطفال وصحتهم؛ لتأتي بالمرتبة الثانية بعد العمليات الحربية بمختلف أنواع الأسلحة في مناطق تشهد انهياراً أمنياً منذ سقوط الموصل بيد ما يسمى تنظيم داعش عام 2014 على أثر انسحاب مفاجئ للجيش منها. ولعل من أبرز ما يهدد حياة الأطفال النازحين وسكان العشوائيات بعد حرائق الخيام المتواصلة وضياع الأعوام الدراسية، ولسعات العقارب، ولدغات الأفاعي السامة، تأتي أمراض الجرب، والحصبة، والكوليرا، والنكاف، وحبة بغداد "الليشمانيا"، والجدري المائي، إضافة إلى القمل والطفح الجلدي بجميع أنواعه، نتيجة تلوث المياه وشحها وتراكم النفايات، إذ القاعدة الطبية تؤكد أن الكيلو الواحد من النفايات يساعد على تفقيس 2000 بيضة ذباب ناقلة للأوبئة الفتاكة، فما بالكم بخمسين طناً من النفايات على مقربة منها أو يزيد! وبرغم ما سبق ذكره آنفاً من مآسٍ يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، فإن أشد ما لطخ أجندة يومياتي يتمثل بضبط باخرة محملة بـ123 طناً من أدوية الأطفال الفاسدة القادمة من إيران والمخبأة في سبع حاويات مخصصة لقطع الغيار في ميناء أم قصر، ما جرى للطفلة رقية علي جودة، البالغة من العمر أربع سنوات، التي فقدت ذراعها بسبب خطأ طبي فادح في مستشفى قضاء "الهندية" الحكومي، تلتها وفاة طفل من أهالي منطقة "حي الحكيم" عمره سبع سنوات بلدغة أفعى في مستشفى الزهراء التعليمي؛ لعدم توافر المصل المضاد لسم الثعابين، سبقهما تعذيب أب يدعى "م ن خ" لابنه "س م خ"، البالغ من العمر 11 عاماً بعد تقييده بسلك كهربائي ثم ضربه بعصا خشبية حتى فارق الحياة في الناصرية، وانتحار، الطفل إبراهيم ملقاط (١٣ عاماً)، بواسطة حبل شنق به نفسه في أحد مخيمات النازحين في بعقوبة، وانتحار إحدى نساء الأنبار مع طفليها (4 - 6 سنوات)، وذلك بإلقاء نفسها بمعية طفليها في نهر الفرات، بسبب الجوع والفقر المدقع، ومقتل 12 طفلاً في قضاء الشطرة برصاص النزاعات العشائرية الطائش. تأبطت أجندتي التي بللها المطر -مطر مزاريب البيوت البغدادية القديمة- الممتزج بالدمع، وحملت كاميرتي بحثاً عن مزيد من ضحايا الحرب العظمى ضد الطفولة، وأنا أردد قول السياب: "وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع، ثم اعتللنا خوف أن نلامَ بالمطر.. مطر مطر!". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :