التأمل.. اليقظة الذهنية لمخاطبة العقل

  • 6/26/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عندما نقف على عتبات الحياة مشرعَّين نوافذها، شاخصة أبصارنا متناغمة مع مشاعرنا بين الواقع والحقيقة، وطبيعة الحياة النابعة من الأفكار والأفعال والرغبات، ذلك الخط الوهمي الذي يربط الماضي بالحاضر في حلقة مفرغة. ولما كان النظر سابقاً على الفكر - يقصد بالنظر المشاهدة - لما تمكن الإنسان من تكوين صورة له في العقل، وبعدها يأتي دور التأمل الذي يأخذ في رسم التفاصيل، فيترتب على النظر حصول اليقين والتمعن بما طافت به العينين، فنقع في حيرة ذاك السؤال العصي.. كيف نعرف أن ما نراه ونختبره حقيقي؟ وهل الاعتقادات التي يتم التوصل إليها عن طريق التأمل استنباطات خالية من التحليل والتفكير؟ فكل تأمل نظر وليس كل نظر تأملاً! يقول الفيروز آبادي: «النظر تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته.. وقد يراد به التأمل والفحص» ومن عجيب الخطاب القراني الكريم أنه فرق بين ما يكون نظراً تأملياً وبين ما يكون اعتيادياً، بقوله تعالى تنبيها لأهل مكة: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» فهم ينظرون إليها كل يوم ولا يرون ما يدعو إلى التفكر، وعندما تحدث عن إبراهيم عليه السلام قال «فنظر نظرة في النجوم» ليبين عز وجل أن نظر إبراهيم يختلف عن نظر قريش والعرب بـ(في) في النجوم، فهو نظر تأملي تدبري ونظر قريش ترفعي عن إدراك الحقيقة، وكان غاية التأمل هو الوصول إلى الاعتبار. إن التأمل في مفهومه الحقيقي هو تدقيق النظر في الكائنات والأشياء بغرض إدامة النظر والتثبت واستمراريته، فهو بوابة الحكمة والتدبر والتفكر، التي تغنى الروح والعقل والجسد، فنجد أن النفس البشرية في تأملها يكون لها القدرة على التماهي في الذات العليا وهو الجزء الذي يستمر في التناسخ داخل الوعي الكامل لليقظة الذهنية باختلاف حالاته كالتذكر والكرم، ويتبنى الإنسان شخصيات عديدة في رحلة اليقظة للتسامي الذاتي نحو الوعي الكامل لإدراك الحقيقة، ويشير منجران إلى أنه "يمكن للشخص الوصول إلى مرحلة التنبيه الذهني بصورة عميقة من خلال ممارسة تمارين التأمل، أو ببساطة من خلال إدراك الحياة المحيطة به وفقًا لأسس منتظمة، وهذا يتطلب تدريبًا مستمرًّا وحنكة"، نحن وحدنا من يمكننا تحديد حقيقة تجاربنا الخاصة، وتعميق فهم قوى الحياة الخفية، وإدراك العلائق بين المشاهدات المتعلقة بالمخلوقات التي تحيط بالإنسان وصولاً إلى اتخاذ القرار الصائب. ويقودنا التأمل في مراحله إلى إكسابنا منظورا جديدا للمواقف العصية وزيادة الوعي الذاتي، وبناء مهارات التخيل والإبداع، وتحويل القلق من المخاوف الداخلية إلى اللحظة الحالية، وتنمية الحياة الداخلية التي جلبت معها الاعتراف بأن السعادة الحقيقية لا تقتصر على العالم الخارجي وهو دعوة عميقة لفهم النفس والتطواف في جوانبها الخفية. ومع كل يوم يمر، نشهد تغيرات جذرية في المجتمعات، فتقلل مطالب الحياة من مساحة الصفاء والهدوء النفسي، وبلا أدنى شك أن التسارع المرعب في هذا العصر خلق بعض الأزمات الإنسانية والضغوطات الدائمة لإدراك ما هو كامن خفي وراء اللحظة والزمن، فكان التأمل هو طوق النجاة من ثقل الهموم، وأداة لتخطي الجسد والعقل، والوقوف على النقطة الأعمق في ذواتنا، فمن الحكمة ألا نجعل من الفكر والتأمل عبئاً إضافياً على النفس البشرية، بل فسحة للروح ومتنزهاً للفكر، وكل امرئ يتأمل ويتفكر على قدر ما حباه الله من العقل والعلم والفهم.

مشاركة :