يُرجع العلماء مفهوم البيع والشراء إلى بداية الحضارة الإنسانيَّة.. كان البدء مقايضة منتجات فائضة بمنتجات يحتاجون إليها.. وتمَّ لاحقًا مقايضة منتجات محدَّدة كالماشية والحبوب وسواهما التي يستخدمها معظم الناس وسيلة للتبادل في الأسواق القديمة.. لم تقتصر تلك التبادلات على الحاجات الأساسيَّة فحسب، إذ قايض بعض الناس سلعًا ضروريَّة بأُخرى كماليَّة كالخرزيَّات الملَّونة والصدفات البحريَّة وغيرها.. تلك كانت أكثر فاعليَّة وملاءمة في الأعمال التجاريَّة مماثلة بمقايضة السلع والخدمات البدائيَّة التي يصعب تخزينها دون أن تتعرض للتلف أو الضياع، وتتطلَّب حيِّزًا كبيرًا. استمرَّ التبادل التجاري على هذا المنوال، مقايضة السلع بالسلع إلى أن حلَّت محلَّها العملات المعدنيَّة ثمَّ الورقيَّة فالرقميَّة حاليًّا.. ومع هذا ما يزال العشَّاق يحبِّذون المقايضة بالعواطف.. وقد عبَّرت عن ذلك المطربة الشعبيَّة السيِّدة سميرة توفيق بأغنيتها: (بيع الجمل يا علي، واشتري مهر إلي) التي لاقت رواجًا، وتردَّدت على ألسنة العاشقين لرقَّة معانيها، وما فيها من حوار ممتع بين عاشقين متيَّمين، كما لو كانت دعوة اقتصاديَّة للخصخصة قبل أن تتناولها المعاهد ومراكز إدارة المال والأعمال بالبحث والترويج وما لها وما عليها. الجمل؛ كان مصدر دخل علي ورزقه الوحيد، ووسيلة تنقُّله.. ولأنَّ المقايضة بالعواطف والإغراء، كان عليه أن يستجيب ليدفع مهرها، ولأنَّ (كرمها لوَّح واستوى، والعنب طاب وحلي)! وما أن سمع علي هذه الكلمات حتَّى طار ضبان عقله، وقرَّر أن يبيع الجمل بما حمل.. ليلحق بالكرْم الذي لوّح واستوى.. لكن عشيقته لم تفِ بوعدها، ولم تكتفِ بهذا القدر من البيع، فطالبته: (بيع النعجة والحمل أنا ما عندي أمل الَّا حبَّك يا علي)... وظلَّت تورِّط علي، حتَّى طالبته ببيع كلَّ ما يملك، لأنَّ: (ويا علي أبويه طميِّع، شو عندك يا حبيبي بيع).. وهكذا باع علي الجمل، وباع النعجة والحمل، وباع هدومه، ولم ينل حتَّى حبَّة عنب واحدة من الكرم الذي (لوَّح واستوى). بكلمات هذه الأغنية الشعبيَّة التي أجادت السيَّدة سميرة توفيق أداءها، والشاعر معبِّرَا عن واقع حالٍ، يبدو أنَّ البنك الدولي قد استهوته، وراح يطِّبقها عمليًّا، وهو يقِّدم القروض للدول الفقيرة المتعثِّرة ماليًّا من أجل التنمية، وليساعدها على القيام من عثراتها! لكنَّه بواقع الحال، يفرض على هذه الدول سياساته النقديَّة والاقتصاديَّة التي تخدم مصالحه دائمًا، وحكَّام تلك الدول غالبًا.. وتكون مجحفة وضدَّ مصالح الشعوب بشكل واضح، تنتهي في آخر المطاف إلى الإفلاس واستيلاء إدارة البنك الدولي على مقدَّرات تلك البلدان. واقع حال، مقايضة ظاهرها الرحمة وباطنها الويل والعذاب.. فلا بدَّ من تناول تداعياتها بجديَّة واهتمام ومعالجتها لضمان ثروة الشعوب، وكرامتها وإنسانيتها.
مشاركة :