شهادة حية على الحياة والإبداع، تلك التي تقدمها لنا في هذه الزيارة المبدعة الدكتورة سهير المصادفة، هي التي توزعت جهودها بين الشعر والرواية والترجمة والعمل العام، فهي صاحبة ديواني هجوم وديع وفتاة تجرِّب حتفها الفائز بجائزة أندية الفتيات في الشارقة عام 1999، وهي أيضا صاحبة الروايات التي حصدت جوائز أخرى مهمة: لهو الأبالسة ميس إيجيبت رحلة الضباع وهي رئيس تحرير سلسلة الجوائز التي تقدم لنا أهم روايات العالم الفائزة بجوائز كبرى. تفتح لنا المصادفة خزانة الذكريات منذ اللحظة الأولى التي تفتح فيها الوعي على الحياة فتقول: أفتح عينيَّ على الحياة مرتعبة، كلُّ ما أتذكره رعبي من أنني سأتوه إلى الأبد، ولن أستطيع العودة إلى بيتنا، إذا ما تركت ذيل فستان أمي الأسود القصير، كانت قد اندفعت إلى الشارع مع الجموع بشعر مهوش، ودموع غزيرة تسيل مع كحلها الأسود، أتذكر جيداً أنني شعرت بأنها قد نسيت وجودي تماماً، بل كانت تتخلص من يدي لتجد لنفسها مكاناً في الحشد. قد يكون هذا اليوم هو الأشد وضوحاً في ذاكرة سهير المصادفة، بل كل ما تبقى من سنواتها الأولى، ربما سبب خلود هذا اليوم ذلك الجدار.. وهو مجرد جدار قديم معلقة عليه صورة الزعيم جمال عبدالناصر يتداعى منها لون أسود تتشحُ به البلاد، إذ فجأة، وكانت لا تفهم آنذاك لماذا؟ لكن الصورة كانت تنبعث منها ترنيمة خافتة وشجية إلى أقصى الحدود، وعلى رغم أن ملايين الجموع ترددها إلّا أنها تغيبُ في همسٍ آسرٍ: الوداع ياااا جمال يا حبيب الملايين.. الوداع. تقول المصادفة: كان أبي الأزهري رجلاً صوفيّاً وقارئاً نهماً، نزح من قرية الإخيوة في محافظة الشرقية لكي يعلّم بناته الأربع في المدارس، وكانت هواية جمع الكتب هي هوايته الوحيدة تقريباً إلى جوار زيارة مساجد أولياء الله الصالحين، وحضور أشهر الموالد في القاهرة ومحافظات مصر المختلفة، كان البيت هو مكاننا الأوحد إذاً، بعد المدرسة لأننا بنات، وكان التلفزيون يبث برامجه لساعات محددة في سبعينات القرن العشرين، وكنت أدور في الشقة وقد ضقت ذرعاً بحفظ: زرع وحصد، أبحث عمَّا أفعله، حاولت قراءة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني فضحك أبي كثيراً، وبدأ يحفظني بعض قصار السور وهو يشرح لي معانيها، ويشكو من عدم وجود كُتَّابٍ في المدينة، هل لذلك لاحظت أن ثمة كتباً مختلفة قد أخذت في التسلل إلى بيتنا بخلاف ألف ليلة وليلة، وبدائع الزهور في وقائع الدهور، وتفاسير القرآن المختلفة، وعبقريات العقاد، ولغو طه حسين في الصيف والشتاء، وحياة محمد لهيكل، وكتاب الحيوان للجاحظ، وشرح المعلقات السبع، وديوان المتنبي، وطوق الحمامة لابن حزم، ومقامات بديع الزمان الهمزاني، والكثير الكثير من المجلدات التي كنت أمسح عنها الغبار وأحاول تهجي عناوينها. ذات يوم تعثرت المصادفة في مجلد جديد هو كليلة ودمنة لابن المقفع، وكتابين مُزق غلاف أحدهما عن عمد،ٍ وكان عنوانه الداخلي واضحاً: أحبك حيّاً أو ميتاً، وبعد أن كبرت عرفت أنها رواية للكاتب الروسي الشهير إيفان تورجنيف، أما الكتاب الثاني فكان مسرحية هاملت لشكسبير، كانت هذه هي الكتب التي حاولت المصادفة قراءتها في سن مبكرة فوجدت صعوبة شديدة في فهمها، لكنها في الوقت نفسه، وقعت على كنز حقيقي، إذ اكتشفت أن الدكان المعتم الذي لا تتوقف عنده أبداً؛ ولا تعرف ماذا يبيع تحديداً، يؤجر كتباً ومجلات، بقروش بسيطة جدّاً، فظل الذهاب إليه عصر كلَّ يوم هو فسحتها الوحيدة تقريباً، أجرت منه كلَّ ألغاز المغامرين الخمسة المتاحة لديه، وعاشت شهوراً طويلة تحلّق أحياناً، وتلهث في معظم الأحيان خلف تختخ ولوزة ونوسة ومحب وعاطف وكلبهم زنجر والشاويش فرقع كانت تشاهد وهي مبهورة كعادتها كل يوم جمعة بعد الصلاة مباشرة برنامج عالم الحيوان، وتهيم مع صوت محمود سلطان الساحر، بينما كانت تحتشد لمحاولة قراءة كتب أبيها بعد أن أجهزت على كل الألغاز وأعداد مجلة ميكي، وتان تان، وكتب أرسين لوبين، وأجاثا كريستي، والغريب أنها بدأت تخربش كلماتٍ تخفيها عن الجميع. ما الذي يجعل مكاناً بعينه ماثلاً أمام أعيننا طوال حياتنا، ندور حوله، ونسبر عمقه في أيامنا، ونتذكر أدّق تفاصيله، وتنتابنا الرعدة نفسها خوفاً أو حبّاً أو حنيناً له؟! هكذا تتساءل سهير المصادفة وتواصل الكلام: تتكاثف رائحته رغم توغله في الزمان، وتتقاطع ظلاله فوق رؤوسنا، وتنبعث من أرجائه موسيقى خاصة تظلّ تترددُ في فضاءِ مسائنا، وإذا ما استمعنا إلى ما يُشبهها فجأة حتى إذا كنا في الهند، أو السند، أو بلاد الواق واق، نتوقف في الحال عن السير إذا كانت خطواتنا تغز السير نحو سباقٍ ما، ونصحو من نومنا الهانئ إذا ما كنا نياماً، ونتأمل هذا المكانَ الأوَّلَ الذي يقفز فوق لحظتنا ناصعَ الوضوح، كان طلاء غرفتي الأولى متهالكاً وضائعاً في ألوان عدة تميل جميعها إلى الاصفرار، كنت أرى، على صفحته كلاباً شرسة، وكائنات تُكلل رؤوسها تيجاناً غريبة الشكل لم تستطع البشرية تصميمها فيما بعد، وأتابع، بشغفٍ، هروب طفلة مُعفرة الجديلة تشبهني تماماً يعدو خلفها رجل عملاق ذو لحية بيضاء، كان إخوتي الصغار يضيفون كل يوم ما يصلح لأن يكون عينَ نسر، أو قمراً مستديراً، أو يُحدّد رشحُ الماء من عند الجيران دوائر جديدة فيزداد ثراء المَشاهد، ربما بسبب غرفتي الأولى هذه، والتي كانت، لا أدري، لماذا مزدحمة طوال الوقت من دون غيرها، ظلّ أول ما يلفت انتباهي في أي غرفة جدرانها. تقول: ظلّت الغرفة ماثلة دائماً أمامي وخلفها الحقول التي رغم اخضرارها نهاراً بقيت موحشة شديدة السواد ليلاً، مسكونة بكل حكايات الجن والعفاريت والقتلى والمقتولين والأطفال الرضع المرميين في لحظاتِ تخلٍ مؤلمة، والخارجين من السواقي والترع بلونهم الأزرق الباهت، قليلة هي الذكريات التي أتذكرها قبل السادسة، ربما جملة مبتورة لا أتذكر قائلها، أو نصف حكاية، أو مشهد غارق في عشرات المَشاهد التي تُشبهه، سمعت، في هذه الأيام للمرة الأولى جُملةَ: أنني لست طبيعية، صرخت بها أمي في وجهي، ويبدو أنها كانت تسألني لساعات عن شيء ما، أو تدعوني إلى طعام ما، بينما كنت أتابع، على الجدار، كيف ستتمكن إحدى الأميرات المحبوسات في برجٍ عالٍ من الهرب من الجني الشرير الذي يحبسها هناك. كان علىّ أن أنتظر سنوات حتى أقرر نشر كتابي الأول عام 1997، كان ديواناً، وكان اسمه: هجوم وديع، نشرت أولى قصائده في أغلب الدوريات الأدبية ابتداء من عام 1987، أتأمل الآن رعبي من النشر آنذاك، الكلام لسهير المصادفة، وقد بدأت في إلقاء بعض ما كنت أسميه قصائد في الإذاعة المدرسية الثانوية، كنت لا أطمئن كثيراً إلى استحسان الزميلات، أو حتى مدرس اللغة العربية الذي كنت بالطبع، قد وقعت في محبته مع بداية سن مراهقتي، وكان بالطبع يصحح لي نصف كلمات ما أسميه قصيدة، ربما كان منبع هذا الخوف أنني قارئة نهمة تلتهم عيناها، ويقر في روحها كلَّ كتاباتِ الأولين، وربما أدركت في هذه السن المبكرة أن هناك بعض الكتب التي تتحدى السنين فوق الأرفف وبعضها الذي يموت قصير العمر، وربما أدركت أيضاً أن المكتبة العربية بالذات شرسة للغاية في طرد كتبها قصيرة العمر إلى غير رجعة مهما تكاتفت لإنقاذها الأقلام المحتفية، والأصوات العالية المؤيدة، والجوائز والأختام، والترجمات، لكي تعيش عمراً أطول، ولكن المكتبة العربية سرعان ما تلفظها، ليظلَّ على أرففها ما استطاع الصمود أمام عقود طويلة، وفي قلوب أجيال متعاقبة. تقول المصادفة: يتوالى نشر كتبي، وأفرح بفوز ديواني الثاني فتاة تجرِّب حتفها بجائزة أندية الفتيات في الشارقة عام 1999، وأفرح بحفاوة النقاد والمبدعين والقراء به، ولكنني أشعر فجأة، كما كتبت في إحدى مقالاتي: أنني كان عليّ أن أنصهر تحت نيران شاعر يرى أنه أعظم متمرد في مواجهة العالم، وروائي يحاول أن يعيد بناء هذا العالم، شاعر لا يمكن محاسبته على شيء، فهو طفل العالم المدلل الذي يستطيع ركل الكون في جملة واحدة، أو وضع غيمة أو شمس في جيب بنطلونه، وروائي يُحاسب على وصفه لمشاعر شخوصه وطريقة كلامهم وشكل بيوتهم ودموعهم وضحكاتهم وموتهم، شاعر يستطيع في كلمتين تحويل الناس إلى طيور مغردة، أو مسخ الأسود إلى فئران، وروائي عليه أن يحاصر أحياء سقطت بكاملها من خرائط بعض الدول ومن حفلات شاي المسؤولين، بلاد تنهار مثلما تنهار بناية عملاقة تعرضت لزلزال، مصائر مفجعة ومختلفة لبشر راحوا دون أن يعيشوا لحظة حقيقية في حياتهم، ودون أن ينتبهوا لإمكانية الشكوى إلّا لله، ودونما التفاتة من الحياة نفسها إليهم، ولكنهم وكأنهم تركوا لي جميعاً ثأرهم، فحاولت تثبيت صورهم، فلربما استطاعوا في حالتهم تلك الجديدة أن يهنأوا بحياة أفضل. وهكذا كتبت سهير المصادفة الرواية حتى صدر لها على التوالي: لهو الأبالسة، التي فاجأتها بالأصداء الطيبة والمدوية التي حققتها عند نشرها عام 2003، حتى حازت جائزة أحسن رواية عن اتحاد الكتاب المصري عام 2005، وطُبعت حتى الآن أكثر من طبعة في دور نشر متعددة، ثم أصدرت روايتيها ميس إيجيبت عام 2008، ورحلة الضباع عام 2013، وتنتظر صدور روايتها الجديدة هذه الأيام بعنوان بياضٌ ساخن، كما شرعت في كتابة روايتها الخامسة. تقول سهير المصادفة: مع تبدل الغرف وتبدل جدرانها ومرور السنوات اكتشفت، ببساطة، أننا نكاد نُولد هكذا، على نحو ما سنكون، جزءٌ كبيرٌ منا ربما هو الجزء الأهم يظلّ محتفظاً بشفرة خاصة تُحدد هويتنا، فأنا مازلت أرتعد كلّما رأيت حتى على شاشة التلفزيون حشرات صغيرة زاحفة، بينما أتأمل بهدوء الوحوش الكاسرة، ومازلت أحب رجلاً واحداً رأيت ملامحه، وهو يحتضنني آنذاك على ذاك الجدار، على الرغم من أن تجليات هذا الرجل خدعتني أحياناً، وهي تنعكس خلال رحلتي على بعض الرجال، ومازلت أرى النخلات العاليات في باحة الدار، وهي تزحف إليَّ، أرى الكراكيب على ضوء الشارع الذي يتسرب من الشيش، وهي تتحول إلى جِمالٍ صغيرة وراع يحمل عصا، تبقى الكراكيب مغطاة على حالها بشراشف قديمة، وتتبدل الحكايات والشخوص كل ليلة. أو ليس مدهشاً، تتساءل المصادفة، أن ما تغير في استقبالي للعالم هو سقوط بعض القشور، ربما كانت هي القشور التي سقطت من طلاء غرفتي القديم، ونمو قدرتي على إزاحة الحقول، والنخلات السائرات، والغرف، والبيوت، والجدران، بجميع أشكالها، لأتابعَ، في فضاء ناصع البياض، شخوصاً تخرج مني كلّ ليلةٍ، وأطاردَ فيه نهاياتِرواياتٍمن تأليفي أنا؟!
مشاركة :