منذ المقدمة النثرية التي جاءت تختال مطرّزةً بحرير الشعر ومشرقةً بأضواء القصيد تمتح من بئر بلا قيعان ، ترفرف بجناحين من مجاز، وتنطق بشفتين من خيال ، ومِقوَلٍ لا ينفكّ عن البوح متدفقاَ من ينابيع الذات الوالهة الموجوعة المتعطّشة للتغريد خارج السرب وداخله متمرّ دة عليه ومتوحدة فيه . يفجؤنا منذ القصيدة الأولى هذا الشلال المتحدّرمن ينابيع الروح يتدفّق منساباً من علوشاهق يطلّ على الكون والكائنات تشهق بركاناً يعانق الوجود بلا حمم حارقة ؛ بل برداً وسلاماً ووئاماً مع النفس ومساءلة بريئة للذات وما حولها فيتمّ التراسل بينها وبين الكون والكائنات ، فتتقمّص الذات نبض الكون ويتماهى فيها الزمان والمكان والطوفان على وقع إيقاع الكامل في تفعيلاته المتوالية، وكأنها مارشات عسكرية تدقّ بكعوبها الأرض في سطور مقسّمة على لوحة بصريّة تتّسق مع النبض الموّار في داخل الشاعرحيث تتلاشى التخوم الفاصلة بين الظواهر الزمانية والمكانية واللغوية في تراكيب جمل فعلية لازمة ماضية، تنساب في حركة جياّشة لا تتعدى إلى غيرها ، الأمر الذي يوحي بالتدفّق الداخلي الباطني فلا يتجاوز جدران الذات : سقط المدى وتبعثر الطوفان في داخلي وتمرّد الخفقان فالسقوط يتبعه التبعثر ثم التمرّد، والفواعل المدى (حركة كونيّة) والطوفان (حدث تاريخي ديني) والتمرّد (فعل ثوري إنساني) فالأفعال (وقائع حسّية ) والفواعل (أسماء معانٍ) فنحن أمام مشهد تتشابك عناصره في مضطرب داخلي نفسي. وتتوزع في فضاء بياضه المفردات الدالّة في سطور تبدوأقرب إلى حركة المدّ والجزر، وهي حركة كونيّة في إطار ذاتي إنساني تتشكّل في مشكاة الذات الشاعرة وفانوسها السحري، وإذ يفرغ الشعر في هذا المقطع (البيت) الذي قام الشاعر بتوزيعه على النحوالذي ذكرت يعقبه تساؤل مدهش اخترق سياق التعبير اللغوي فتحولت من كينونتها التواصلية لتصبح ذاتها تجسيداً للحس الداخلي فأصبحت الحروف والكلمات هي الرسالة والمرسل الوسيلة والمتوسّل ، وانحرفت عن سياقها اللغوي إلى سياق وجودي ، فالأسماء والحروف هي الذات التي تتكشّف على حقائق كينونتها فتتدفق الأسئلة في دلالاتها الملغِزة وعلامتها الاستغرابية : النهر والجائحة والبركان ، هذه العناصر الثلاثة التي تستدعي الحركة والسكون في جوهرها الصانع لنسيج الحياة والعدم، والحركة والسكون، والماء والنار . وتنداح في أفق الذات ثلاثيّة جديدة تتعلق بالزمان : الماضي والحاضروالمستقبل في استبطان يسبر أغوار اللحظة ويقف على مشارف الحيْرة ، حيت تتعالق الأزمان الثلاثة لتتشكّل عبرها اللحظة الشعريّة بكل معطياتها عبر أفعال ثلاثة تلخّص الحركة النفسيّة الداخليّة الإصغاء والتفتيش والتماهي، مصاغةً في أفعال مضارعة تتمركز داخل الذات الحائرة ؛فالمساءلة تتم في الحاضرة وترمي إلى استكشاف المستقبل وتنتهي إلى تماثل وتشابه وتناظر حيث يتبدّى الفهم ويتوه الّلب وتخيّم الغربة في الزمان والمكان واللغة ، هذا الاغتراب الذي ينتهي إليه الشاعر في قوله: لا وقت يشبهني ولا أُنمى إلى وتر وتنكر سحنتي الألوان فالغربة تأخذ أبعادا ثلاثة تمضي بالشاعر إلى آفاق متفردة زمانا وخطابا وفنا . وقد استدعى الشاعر شخصياتٍ ورد ذكرها في القرآن الكريم فاستلهمها واستثمر ماأوحى به النص القرآني ، ف(هامان) الذي استكبر في الأرض كما ورد في قوله تعالى في ست نصوص، منها قوله تعالى “ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين” وهامان كان وزيرا لفرعون زمن موسى عليه السلام . أما لقمان فكان حكيم عصره ورد ذكره في القرآن الكريم “ولقد آتينا لقمان الحكمة” عاصر نبي الله داوود ، وعرف بوصاياه الشهيرة ، وقد استلهم الشاعر السياق القرآني لهاتين الشخصيتين في ذكره لهما حيث حضور (هامان ) وغياب لقمان إشارة إلى حضور الجهالة وغياب الحكمة ، فهويريد أن تعاد صياغته باستبدال لقمان بهامان الذي فرض وجوده ، وهكذا جاء النص الموسوم ب(لم يجئ) وهوالنص الأول في هذه المجموعة الشعرية. يضم الديوان عشرين قصيدة ذات نزعة بوْحيّة رؤيّويّة تحلّق في فضاءات متعدّدة ما بين تنائية الصمت والكلام وتداعياتها التي تتردّد بين أحاسيس الوجد ولوعة الأفئدة، ومعاناة الحالمين والعاشقين والأوجاع والأفراح في قصيدته (بين نغمتين) متصلة بقطبي المهجة واليراع حيث تشتبكان في عناقهما الأزلي ، ما بين (كاسر وكسير) و(أعمى وبصير) و(صحراء وغدير) و(الهوى والصلاة) و(القبلة والقلب) هذه الدراما الغنائية التي تجعل من الّلذة الحسيّة فردوساً ونعيماً في مخيال الشاعر في قصيدته ( قبلة تفتح الفراديس) وتماسٍّ حميم بين الألحان والأشجان ، وفي نزعة إنسانية تتجلّى في قصيدته (اختلاس أبيض لهواجس كفيف) ومقاربة لعلاقات اجتماعية في قصيدته (فلاح المجاز) ومخاطبة الأصدقاء في قصيدة (هم نغمة وأنا الصدى) ومحاربة الإرهاب ، وما إلى ذلك من قضايا يُعمل فيها قريحته ليخرج بها من نثريّتها المألوفة إلى رحاب الشعر ، وشعريته تتجسّد في توظيفه لجدل الثنائيات، وتكثيف النهج الاستعاري الذي يكاد يلامس سقف الرمز، والتناصّ الذي يتراوح بين استلهام الشخصيات والسياقات النصّية والتمثّل الدلالي والإشارة عبر المفردة بحمولاتها النّصية من مصادر متعدّدة ، أغلبها يعود إلى مرجعيّة قرآنيّة ومدى تاريخي ، حيث استلهام القصص القراني من خلال الألفاظ الدالة ، مثل (الجب) في قصة يوسف عليه السلام وقصة هامان وزير فرعون ولقمان الحكيم ، وآخر أسطوري وشعبي ، وآخر معاصر، وهنا أشير إلى قصيدة الشاعر محمد العلي (لا ماء في الماء) وإلى الشعرالجاهلي في قوله (تتحنظل الكلمات لحظة حزنها ) استحضاراً لما جاء في معلقة امرئ القيس (لدى سمرات الحي ناقف حنظل) وقد جاءت قصيدته (يخصف ضوءه) لتختزل رؤاه ونهجه الجمالي ، فقد اختار لفظة (يخصف) مستدعيا بها قصة (أدم وحواء) عليهما السلام ، وهذه اللفظة القرآنية أُسندت إلى الضوْء لتفضي إلى مفارقة تجمع بين العري والستر ، كما وردت في القصة القرآنية ، وأما تشكيلتها الحواريّة فهي تعكس فيما أرى ثنائيّة الإغواء والتوبة، ثم الاعتراف الذي انتهى إلى الهبوط من الفردوس ، والصدع الذي أصاب النفس البشريّة وقاد إلى الخطيئة ، فكان الحوار - كما يبدو– بين شقّي الذات المنشطرة : ما الجرح قلت ؟ قال لذعة لهفة ولقلبي الأشقى ألذ طعونه وما الشعر ...إلى آخر هذه الحواؤية المتسائلة فأبان عن فلسفته وعن نهجه الفني وليت المجاللا يتسع للمزيد .
مشاركة :