إذا صحت توقعات مجموعة سيتي غروب المصرفية فلا شك في أن العالم يسير باتجاه ركود اقتصادي عظيم. ولهذا يكثر الحديث عن ضرورة أن يتحرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لكبح إغراء رفع تكاليف الاقتراض أو طرح برنامج تيسير كمي جديد. ويخضع البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان لضغوط مماثلة لزيادة حجم برامج التيسير الكمي التي تتبناها. لكن التجربة أثبتت عدم جدوى خفض أسعار الفائدة فهل يلجأ القائمون على البنوك المركزية الكبرى في العالم لإلقاء النقود بالهليكوبتر على الاقتصاد؟ وقد كشف محضر اجتماع لجنة الأسواق المفتوحة في الاحتياطي الفيدرالي الذي نشر الخميس الماضي عن أن معظم أعضاء المجلس يعتبرون التريث في قرار رفع الفائدة ضرباً من الحصافة بانتظار المزيد من البيانات التي تؤكد أن أداء الاقتصاد لا يتراجع. وهي الفكرة نفسها التي أكدها محافظ بنك إنجلترا، مارك كارني في أحدث مؤتمر صحفي له. ويؤكد مكتب مشتشاري كارني الاقتصاديين أن نسبة 40% من اقتصادات العالم تنتفع حالياً من معدلات أسعار فائدة أدنى من 1% بينما لا تصل تكاليف الإقراض في ثلثي اقتصادات العالم إلى 3%. ومع ذلك تتصاعد الدعوات مطالبة مسؤولي البنوك المركزية بمزيد من التدخل. وإذا كانت القروض المجانية لم تفلح في إنقاذ الاقتصادات المتعثرة فما الذي يمكن للبنوك المركزية أن تقدمه أكثر من ذلك؟ وليس من الحكمة توقع قيام الروبوتات وتقنيات العالم الافتراضي بالدور المطلوب في تعزيز الإنتاجية خاصة وأنها لا تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل عشر سنوات. وقد سجلت الإنتاجية الكلية على صعيد الاقتصاد العالمي مستويات نمو بلغت 2.7 بين عامي 1920 و1970 ثم تراجعت إلى 2.3% بين عامي 1994 و2004 إبان طفرة التقنية لكنها لم تتجاوز 1% منذ عام 2004 وحتى الربع الثاني من عام 2015. ولهذا قد يكون من الضروري أن تتخذ الحكومات موقفاً استثنائياً خاصة بعد نجاح البنوك المركزية في الحيلولة دون تحول التباطؤ الاقتصادي العالمي إلى ركود مستفحل عبر ضخ الأموال في الاقتصاد. وهذا يعني أن البيئة المالية باتت أكثر أهمية من الإجراءات النقدية في الحد من الخراب. ولعل هذا ما دفع رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد للحض على الإنفاق على مزيد من مشاريع البنى الأساسية التي اعتبرتها أهم محركات النمو الاقتصادي على المدى القريب لجهة توفير فرص العمل وتحسين فرص النمو على المديين المتوسط والبعيد. لكن هذه الدعوة تطالب الدول القادرة على الإنفاق بيسر للاستثمار في مشاريع البنى الأساسية المستقبلية على أمل أن تسفر عن نمو على المدى البعيد رغم ما تطرحه البنوك المركزية من برامج تحفيز. والمعروف أن شركات الإنشاءات الكبرى في العالم تنتهج سياسات تسعير ومناقصات في المنافسة على مشاريع البنى الأساسية في دولة مثل الولايات المتحدة تختلف عن تلك التي تعتمدها في دول الاقتصادات الناشئة رهاناً على الأهمية اللوجستية لتلك المشاريع فيها. وتعاني الطرق والجسور وأنظمة الاتصالات وغيرها في الولايات المتحدة من تراجع في جودة أدائها بشكل دائم خاصة بعد إغلاق صندوق تمويل المشاريع الحكومية عام 2008. ويبدو أن الحكومة البريطانية أدركت هذه الحقيقة حيث سارعت مؤخراً لإنشاء هيئة مشاريع البنى الأساسية الوطنية وأناطت بها مهمة إعداد الدراسات والاستشارات حول مشاريع البنى الأساسية وتقديمها للحكومة. وإذا كانت الحكومة المحافظة التي تعارض عادة الكثير من المشاريع وتفرض سياسات التقشف قد أدركت أهمية هذا التوجه في تحقيق النمو الاقتصادي، فمن البديهي أن تسارع حكومات الدول الكبرى في العالم لتبني النهج ذاته عبر رسم سياسات مالية لإنقاذ اقتصاداتها بعد أن استنفدت السلطات النقدية ممثلة في البنوك المركزية وهيئات تنظيم القطاع المالي ما تملكه من أدوات وأسلحة كافة.
مشاركة :