ما من شك في أن الاقتصاد العالمي يشهد تباطؤاً في النمو البنيوي والنمو المرحلي. فكيف يمكن أن تتدخل السياسة في تعديل مساره؟ المؤكد حتى الآن أن كل سياسات الدول الفاعلة تتسم بالارتجال. فقد انتقلت أدوات البنوك المركزية مثل أسعار الفائدة من اللامعقول إلى الواقع وستشمل الخطوات التالية التوسع في الإنفاق المالي. والحقيقة أن هذه كانت توصية مجموعة دول التعاون الاقتصادي والتنمية الشديدة الحماس تاريخيا لمعايير التقشف، في تقريرها الدوري الأخير الذي يصدر بعنوان إنتريم إيكونوميك أوت لووك. إلا أن ذلك على ما يبدو ليس نهاية المطاف. فالتوسع في الإنفاق يستتبع دعماً نقدياً مباشراً وسخياً قد يصل إلى حد (إسقاط النقد بطائرات الهليكوبتر) حسب تعبير ميلتون فريدمان. وكانت تلك السياسة حتى عهد قريب هي السائدة حتى استنفدت البنوك المركزية أدواتها الرئيسية وهي خفض أسعار الفائدة وتوسيع دائرة برامج التيسير الكمي. واليوم بات العالم بحاجة إلى أداة جديدة تستهدف بشكل مباشر دعم الإنفاق. فلماذا يتم دفع العالم باتجاه استخدام هذه الوسيلة؟ الجواب بكل بساطة هو أن تباطؤ الاقتصاد العالمي يبدو من النوع طويل الأجل. فقد أكد تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن نمو الاقتصاد العالمي لعام 2016 لن يكون أفضل مما كان عليه عام 2015 أي بمعدلات هي الأدنى للعام الخامس على التوالي. والعلة الكامنة وراء ذلك بكل بساطة هي فيض السيولة في العالم واحتمالات ارتفاع حجم الادخار مقابل الإعراض عن الاستثمار، كما أن ضعف الطلب المزمن مرشح للتفاقم. وينبغي النظر إلى مشكلة ضعف الطلب هذه في إطارها التاريخي. فمعدلات الفائدة الفعلية على الاستثمارات الآمنة تتراجع منذ عقدين من الزمن. وقد ثبتت قريباً من الصفر منذ أزمة عام 2008. وقبل ذلك عوضت طفرة العمليات الائتمانية في الغرب ضعف الطلب. وبعد ذلك ساعد العجز المالي وأسعار الفائدة الصفرية وتوسيع موازين البنوك المركزية الختامية في استقرار الطلب في الغرب بينما مولت العمليات الائتمانية المفرطة الاستثمارات الضخمة في الصين. وتسببت السياسات النقدية الرخوة في الغرب وسياسات الائتمان الميسر في الصين في دفع اسعار السلع الاستراتيجية صعوداً بعد الأزمة المالية العالمية، وإن كان النمو الصيني الاستثنائي هو العامل الأهم بمفرده. ولا شك أن انتهاء طفرات الائتمان المذكورة هو السبب وراء ضعف الطلب حالياً. إلا أن ضعف الطلب مرتبط أيضاً ولو بشكل نسبي ببطء نمو العرض. فعلى الصعيد العالمي تراجع النمو في العمالة وفي إنتاجيتها بشكل حاد منذ منتصف العقد الماضي. وتسبب النمو الضعيف في الناتج في ضعف الطلب لأنه تسبب في تراجع الاستثمارات التي تعتبر دائماً محركاً رئيسياً للإنفاق في الاقتصاد الرأسمالي. ولعل كل تلك الأسباب مجتمعة تبرر الورطة التي يعيشها اقتصاد العالم. كما أنها تفسر سعي الدول التي تعاني من ضعف الطلب محليا لخفض عملتها أملا في تنشيط صادراتها. وتتزعم هذا النادي كل من اليابان ومنطقة اليورو. وتعاني الأسواق الناشئة من نفس العلة بعد انهيار عملاتها بينما لا تزال الصين تقاوم لكن لأجل قد لا يطول. ويبدو أن خفض الرينمنبي سيكون حتمياً شاءت الحكومة أم أبت. ولا يوجد حل سحري لمشكلة اقتصاد العالم بينما تكثر الحلول المهدئة. والعلاج المفضل اليوم هو سياسة نقدية تقوم على اعتماد اسعار فائدة سلبية. والحقيقة أنه لا يوجد ما يحفز الشركات على الإنفاق في ظل ما يجري. كما أن الأمر ينطبق على برامج التيسير الكمي الذي يقتصر تأثيره على معدلات صرف العملات. وجميع الدول سوف تسعى لتنشيط النمو عبر زيادة صادراتها. والنتيجة النهائية هي الانفجار. ويبقى الحل الوحيد الممكن هو تغيير السياسات المالية. وترى منظمة التعاون الاقتصادي أن زيادة الإنفاق الحكومي الممنهج المتزامن مع تنفيذ الإصلاحات الهيكلية قد يزيد الناتج ويخفض نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي المحلي. وهذا الحل منطقي اليوم مع إمكانية اقتراض الحكومات بمعدلات فائدة صفرية أو سلبية على المدى البعيد. أما الوقوع في أسر التقشف حتى عندما تكون تكاليف الاقتراض معدومة فهذا ضرب من السذاجة. والخلاصة أن القوى الاقتصادية التي اضطرت الاقتصاد العالمي إلى اعتماد الفائدة الصفرية تزداد قوة حالياً وهو ما تؤكده معطيات الاقتصاد العالمي والسياسات النقدية وأسعار الأصول المتضخمة. لهذا ينبغي على صناع القرار الاستعداد لتبني سياسات غير تقليدية أو غير مريحة أو كلتيهما معاً. ولا يمكن لاقتصاد العالم أن يخرج من عنق الزجاجة طالما استنفد أسلحته التقليدية ما لم يستخدم أسلحة غير تقليدية.
مشاركة :