التغافل بين تصرف جواسيس الفضائح وشرف التغابي الواضح (1-2)

  • 7/16/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

التغافل هو صرف النظر المتعمَّد وإظهار الغفلة عمَّا ارتكبه المتغافَل عنه من نقص وتقصير مع الإحاطة الكاملة بذلك من قبل المتغافِل، لأن التغافل لا يكون إلا عن علم وفطنة، متخذاً هذا المتغافل من الفطنة وتكلف الغفلة سلاحاً يعينه على التغافل بما يرفع من شأن ذاته ويسمو بها عن النقائص، ويصلح حال الطرف الآخر ويحفظ له كرامته. وهذا الفن لا يجيده إلا حكيم متسامح وحليم دائماً إلى فعل الخير طامح، وقد قال الإمام الشافعي الكُيِّس العاقل هو الفطن المتغافل، وقال آخر: تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم، وقد قال الشاعر: أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف عن هفوات والهدف من هذا الخلق الجميل والطبع النبيل والمبدأ الأصيل هو تجاوز الهفوات والخلافات والارتفاع فوق الزلات في سبيل إيجاد بيئة صحية تساعد على نمو الوئام والانسجام، وتزرع الإتلاف بدلاً من الاختلاف عن طريق إحلال المودة والألفة محل الكراهية والفرقة مع عمل كل ما من شأنه توفير الوقاية من الظنون الكاذبة والاتهامات السائبة التي عادة ما تفسد العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة والأقارب والجيران وزملاء المهنة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل، ويعني ذلك تعمد الغفلة مع فهمه وإدراكه لما يتغافل عنه، ترفعاً وتكرماً عن الأمور الساقطة والهابطة. وقال الحسن البصري: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، وكما قال الشاعر: ومن يتطلب جاهداً كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب وفضيلة التغافل والتغاضي تنأى بالذي يتحلى بها عن تتبع هفوات الناس واقتناص أخطائهم، ومحاولة كشف عوراتهم، مما يعود عليه بالطمأنينة والراحة النفسية، ويجعله مقبولاً في الوسط الذي يعيش فيه، بفضل الترفع عن سفاسف الأمور وصغائرها، والانشغال بعيوبه عن عيوب غيره، وترك ما لا يعنيه، ومن تحصن بالفضائل عن الوقوع في الرذائل ترفع عن صغائر الأمور وبالتالي علا به ذوقه وسمت به نفسه عن كبائرها، مبتعداً عن ما يقع فيه أشرار الناس من قبيح القول والفعل وقد قال الأعمش: التغافل يطفئ شراً كثيراً، وقال الحافظ ابن رجب: المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، وقال الشاعر: شر الورى بمساوي الناس مشتغل مثل الذباب يُراعي موضع العلل والتغافل في مفهومه الشامل ومغزاه المتكامل يرجع إلى ما يتحلى به المتغافل من مكارم الأخلاق، حيث إن هذا الخلق لا يتخلق به إلا مَنْ يدرك قيمة التسامح والصفح والحلم والعفو والإيثار والكرم، مضافاً إليها امتلاك قدر من الذكاء والفطنة والعلم وكرم النفس وبُعد النظر على النحو الذي يتيح له إقالة العثرات والتسامح عن الزلات، متخذاً من التغافل عن الرذائل سلماً يصعد عليه إلى الفضائل بفضل الترفع عن كل ما يدنس ويشين، وعمل كل ما يُجِّمل ويزين، وقال اكثم بن صيفي: من شدَّد نفر ومن تراخى تآلف والشرف في التغافل، وقال الشاعر: وقد أمر على السفيه يسبني فمضيت ثمة وقلت ما يعنيني والتغافل الصحيح هو ما كان عن قوة لا عن ضعف وعن علم لا عن جهل وعن ذكاء وفطنة لا عن غباء وسذاجة، الأمر الذي يرفع من شأن المتغافل الذي نهج نهجاً جميلاً وتصرف تصرفاً نبيلاً مقابل إساءة الطرف الآخر، محسناً إلى من أساء إليه بالتكرم عليه، وجاعلاً من التغافل تسامحاً ومن التغابي تصالحاً نتيجة لما يتصرفه هذا المتغافل من تصرف سوي وما يتمتع به من موقف قوي، وقد قال جعفر الصادق: عظموا أقداركم بالتغافل. وينبغي التمييز بين الأمور القابلة للتغافل وتلك التي لا يجوز التغافل عنها، فالأمور القابلة للتغافل هي الأمور الدنيوية التي قد يحصل فيها النقص والتقصير من قبل الإنسان بسبب عجزه وكسله وأنانيته وتقلبات جنانه وآفات لسانه، أما بالنسبة للأمور المتعلقة بالدين فلا مكان للتغافل فيها، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع أمور الدين المنصوص عليها في شرائعه وأحكامه والمتمثلة في حقوق الله وحدوده والواجبات والمحرمات وما في حكمها، فهذه الأمور ليست محلاً للتغافل بينما يجب القيام بها كما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي مع المداومة على النصيحة والتنبيه بشأن هذه الأمور، تفادياً لما قد يحدث من مخالفات وتجاوزات تضر بالدين وينعكس ضررها على العباد والبلاد. والأمة إذا ما ترك أفرادها التناصح ولم ينهوا عن المعاصي وجبت عليهم اللعنة وحل بهم ما حل ببني إسرائيل عندما أهملوا التناهي عن المنكر فيما بينهم كما ورد في القرآن الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} المائدة (79،78). وفضيلة التغافل يوحي ظاهرها بالتغاضي عن الشيء وصرف النظر عنه، بينما يستدل من باطنها على جملة من مكارم الأخلاق التي يتأرجح ميزانها بين الصفح والعفو، وهي فضائل يتم بموجبها التكيف مع الحالات المطلوب التغافل عنها على ضوء الفعل الخاطئ، وما يقابله من تغافل يندرج في إطار مفهوم الصفح والتسامح والعفو حسب الموقف، وهو موقف لا يحسن التكيف معه وقياس مستوياته إلا أصحاب الهمم العالية والقيم السامية.

مشاركة :