مؤيد الرّاوي كتب «سرد المفرد» ورحل منفياً

  • 10/14/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مؤيَّد الرّاوي (1939- 2015) شاعرٌ بارزٌ آخر من «شعراء كركوك» يرحل في المنفى، صوت خاص من تلك الجماعة التي جسّدتْ في وقت ما نموذجاً لثقافة التنوع المفتوح التي تكاد تنغلق إن لم نقل تنقرض الآن في العراق بل في الشرق، فهو ولِدَ من أمٍّ مسيحيَّة وأبٍ مسلم، وينتسب بكنيته إلى مدينة «رَاوَة» في غرب العراق، وليس لراوٍ أو لروايةٍ ما! مع أنه أحد الرواةِ الأساسيين لكن الزاهدين، في الحكاية الغامضة للشعر للحديث وقصيدة النثر العربية. ولكن، ماذا يعني رحيلُ شاعر بعد يوم واحد فقط من صدور ديوانه الجديد؟ ففيما كان مؤيد الرَّاوي يُحتضَر في منفاه ببرلين، وهو يودِّع بقيةَ النور الأخير قبل العتمة الكبرى، كان ديوانه الأخير «سَرْدُ الْمُفرد» (دار الجمل) يواجهُ النور في مطابع بيروت. قد لا يعني ذلك سوى صُدفةٍ قدرية تضاف لتلك الصُدف غير الخاضعة للتفسير، والمرتبطة عادة بتراجيديا الشعراء الْمُحتضَرين على مرّ العصور. لكن موت الشعراء، يُشبهُ موتَ الأطفال حقّاً، حتى وهم يرحلون في سنِّ الشيخوخة، إذ ثمة هاجسٌ غريبٌ يجعلنا مصرِّين أنهم رحلوا باكرين، لعلَّها عُقدة جلجامش، وذلك الخلود غير المستطاع، مع فارق بسيط أن الشعراء أكثر ذعراً من الموت، وأكثر تعلُّقاً بفكرة الخلود حتى بمعناه الفيزيائي ولكن عبثاً. واللافت أن الطفولة «عقيدة» شعرية في «سَردُ الْمُفرد» منذ تلك المقدمة الوجيزة للديوان «عن الشعر والطفولة» حيث تصوُّرُ الطفولة ذاته تصوُّرُ الشعر، لأنهما، كليهما، ضدّ المنطق الصارم للحياة والفيزياء التقليدية للزمن. هذا الحديث الجذري عن الطفولة والأحلام، بوصفهما الذخيرة الحيَّة للشاعر، يعيد لنا ذلك التبني الستيني في الشعر العراقي للسوريالية، والواقع أن مؤيد الرَّاوي، إلى جانب صلاح فائق، قدَّمَ نموذجاً متقدِّماً للشعر السوريالي العربي منذ وقت مبكر في مطولاته التجريبية، والتي ظهرت بينة في ديوانه الأول «احتمالات الوضوح 1977» ثم سرعان ما بدأت بالانحسار النسبي في «ممالك 2010» التي لم تتخلَّ نهائياً عن تلك الأجواء مع تمسُّك نسبي أيضاً بكتابة المطولات. لكننا نستطيع تلمُّس مغادرة التطرُّف في التجريب والفانتازيا المنفلتة، والازدحام الفائض أحياناً بالصورة الشعرية التي تتسم بالتجريد وربما التعقيد البياني، لمصلحة كتابة التجربة في ديوانه الأخير، وهي الأخرى ستقوده إلى الاختزال في حجم القصيدة، والتكثيف في مقاربة العالم الداخلي، مقابل تحوّل السوريالية من «حاجة» ثورية اجتماعية، كما نوَّه لها بريتون في بيانه، إلى تجربة شخصية. فغالبية قصائد الديوان تبدو فيها الحياة وكأنها غيبوبة متقطِّعة، تتخلَّلها ذكرياتٌ مصحوبةٌ بالكوابيس ومدنٌ مطمورةٌ تحت الأساطير، وأشخاصٌ ملتبسون بالأشباح. إنها قصائد آتية من عالمٍ شخصي قديم طرفاه الطفولة والحلم، وعالم جماعي قديم هو الآخر، لا مجال فيه للإشادة بالحاضر، بقدر ما نرى تلويحة أو إيماءة له من مكان بعيد، تنطوي على الوحشة من الآخر وعلى استشعار ذاتي بالاغتراب: «الطريق أمشيه لوحدي... لا تعكسني المرآة.» إنها ثلاثة دواوين، إذاً، تمثِّل الأعمال الكاملة لشاعر يكتب منذ أكثر من نصف قرن! بينها اثنان أصدرهما في السنوات الخمس الأخيرة وقد جاوز السبعين، وهي أعمال لا تبدو وفيرة، بخاصة مع شاعر توحي سيرته بأنَّه مُتفرِّغ للكتابة، إذ يميل إلى الانزواء والعزلة، وإلى انفصال يكاد يغدو فراقاً مزمناً بل هو نهائي مع الصخب الإعلامي وأجواء المهرجانات والتجمعات الثقافية. ولعلَّ العنوان نفسه يلخِّصُ لنا تلك العزلة، فهو هنا أشبه بعزفٍ أخيرٍ ومنفردٌ، وإن اتصل بالسرد الذي يوحي بالنثري وبالجماعي، فــ «المفرد» هنا ليس كنايةً بلاغية عن نرجسية ونبويَّة بل هو تعبير عن «وَحدة وانفراد» وليس «واحدية وتفرُّد» وهو بهذا المعنى محنة وليس احتفاءً، وتأتي قصائد الديوان بالمجمل لتعبر عن مشهديات متقطعة عن تلك المحنة. فمنذ القصيدة الأولى في الديوان يستعير الرَّاوي البيتين الشهيرين للمعرَّي ليبني عليهما قصديته: أَراني في الثَلاثَةِ مِنْ سُجوني/فَلا تَسأَلْ عَنِ الخَبَرِ النَّبيثِ/ لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي/ وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ». بيد أنها استعارة تحريفية يعمَد إلى خلخلة إيقاعها وتوظيفها لمقتضى الحال والمحنة الذاتية: «تراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني/ لِفَقر ناظِري وَلُزومِ بَيتي/ وَكَونِ الجسدِ في الْمَرَضِ الخَبيثِ». ومع أنَّ نزيل المعرَّة وسجينها استهلَّ بيتيه الفذَّين لوصف عَمَاه وعُزلته واحتضارِه، بـ «أراني» فإنَّ «المنفي في برلين» أَدارَها باتجاه المخاطب نفسه: «تراني» عبر مرآة بين أعميين يَرَيان بالبصيرة، مثلما قَلَبَ مفردات أساسية أخرى في البيتين وحرَّفها تعبيراً عن حلولية خاصة لا يريد لها أن تبلغ الاتحاد والتماهي التام مع أبي العلاء في سجونه الثلاثة. في قصيدة «سرد المفرد»، ثمة ملامح تقريبية لسيرة، لكنها سيرة لا تتحرَّك في فضاء مفتوح ومشهد ظاهر بقدر تحركها في أبعاد ترميزية تتجسَّدُ في لعبة الأقنعة والمرايا، ذلك أن الأنا تظهر مرَّةً فصيحة مغايرة نرجسية ربما: أنا هو أنا/ لا أمنحُ ظِلاً حينَ تُشرقُ الشمسُ/ والنَّهرُ أنزلُ فيهِ مرَّتين» ومرَّة تتبدَّى متشظية هلامية مخادعة للذات والآخر: «أنتَ لستَ أنتَ/ وأنا لستُ أنا/ سنمكثُ وهلةً هنا ثمَّ نَفترِق». ولهذا فإنَّ السيرة التي يسعى الرَّاوي إلى روايتها هنا هي سيرة روحية قلقة، تبدو أحياناً متحقِّقة الهوية، ومغتربة حائرة في أحيانٍ، ولذلك تتذرع بالمونولوغ الداخلي وتنأى عن الإفصاح حتى في مواجهة عاصفة من الآخرين: «أرتدي قِناعي/ لأذهبَ إلى بحرِ النَّاسِ/ متوخِّياً العواصف». في الديوان حضورٌ لا يخفى للموت، باستعارة تتأرجح على الدوام بين «الحكاية» و «النهاية» وهما مفردتان تتكرَّران كثيراً في مواضع عدَّة من الديوان: «قِيلَتِ الحِكَايةُ وانتهتْ/ كُلُّ حِكايةٍ تُروى/ لا يعرفُ عنها/ مَنْ تمسُّه حتَّى تصلَ النهاية». وصورة المشهد الأخير لا تقلُّ حضوراً: «اللعبةُ انتهتْ/ يمضي القطارُ دون أن يتوقَّفَ/ المحطَّةُ الأخيرةُ مُوحشة». أما النهاية، فيرسمها بسخرية مفعمة بالمرارة: «أنتَ هُنا في حَضرةِ أعراسٍ انتهتْ.». لهذا فإنَّ الديوان الأخير لصاحب «نزهة في غواصة» يمكن أن يحتلَّ مكانه عن جدارة في «ديوان المحتضرين». ومن هنا هذه العبارات الموجزة الموحية لكن الممتلئة بالإشارات والقول كتلك التي تحفل بها عبارات الذين استشعروا دُنوّ الفناء وهو يقترب. صوت الرثاء لدى الرَّاوي متعدّدٌ فهو يتعدَّى رثاء الذات، إلى رثاء الآخرين جماعة وآحاداً، ثم يخرجُ إلى رثاء المدن، ففي قصيدة «مرثية لنا نحن الباقون والشمس تغرب» وهي مرثيته الجماعية لأصدقاء الصبا من جماعة كركوك: سركون بولص وجان دمو وجليل القيسي وأنور الغساني وقحطان الهرمزي، ثمة تصوير إضافي لقسوة الموت، وللاحتضار بما فيه من كابوسية وألم متصل يغدو فيه الإنسان وليمة جماعية للضواري، فيرسم صورة الموت بوصفه «ضرباً من القتل» على رأي المتنبي: «يجيءُ الذئبُ المبهم/ غارزاً أسنانَهُ في القطيع» وكذلك في مرثيته للأيام: «مَضَتِ الأيَّامُ كما لو عاشَها وقَتَلها آخَرُون!». ومع هذا الإحساس بالذعر من النهايات، يحاولُ عَقْدَ صفقةٍ مُريبة مع النهاية/ الموت: «حسناً أريدُ أنْ أتآخى مَعَه/ أتواطأ مع مُلكِهِ» لكنها هدنة هشَّة في تلك الحرب الأبدية، لا عاصم منها حتى في استمهال «الوقت» الوقت وليس الزمن! وهكذا تصبح وليمة الوقت خاتمة المطاف، فالبرهة ضيِّقة تماماً: «كمْ من الوقت تبقَّى لك؟» وتحت هذه الوطأة يلجأ إلى تعويذة بدائية لا بديل عنها لمخاتلة الألم الداهم، فمرَّةً يسمِّيه الوصول، وينعته بالتشبيه المعتاد: محطة أخيرة في رحلة قطار تائه! وفي مرَّةٍ أخرى يعود إلى عُقدة جلجامش في رثائه لسركون بولص:« ها قَدْ تركتَ لنَا، مثلما يفعلُ المسافرُ في البَرقِ/ تلكَ المعرفةَ الأزليَّة/ مُجرَّد دودةٍ تسقطُ من الأنفِ لتعلن: تلك هي الحياة». وكشأن المُحتضَرين، في أحلامهم الطفولية، يرسم لوحة العودة إلى مدينته القديمة «كركوك» وهو في سفينة تحرسها الغوَّاصات! وعلى الرغم من أن لا منفذ بحرياً للمدينة في الجغرافيا الحالية، لكنَّ مَنْ يتقصّى تداخل الأسطوري مع الواقعي والحياتي اليومي في قصيدة الرَّاوي، سيعرف أنه يتحدَّثُ عن مدينة كانت قريبة من عاصمة الطوفان في الأساطير الرافدينية القديمة: «مدينتي عتمةٌ سأمرُّ عليها وأغادرُها إلى الأبد.»

مشاركة :