تمثل الشعائر الدينية الإسلامية، خاصة الحج، مخزونا ثقافيا هائلا، استمد منه الشعراء وأرباب الأدب على اختلاف مشاربهم، مجازاتهم اللغوية ومترادفاتهم الإبداعية، قديما وحديثا، وهو ما أثرى القريحة الشعرية وديوان الأدب العربي على مر العصور، إذ إن كل منسك من مناسك الحج يمكن توظيفه مجازيا مثل السعي والطواف ورمي الجمرات والإفاضة وغيرها، فالتوظيف المجازي لهذه المناسك في القصيدة يحيلها إلى حالة شعرية بامتياز.ذخيرة معرفيةيذكر الشاعر جاسم الصحيح أن الحضارات الإنسانية، بكل ما تحمله من ثقافات متنوعة سواء كانت دينية أو دنيوية، جميعها تمثل ذخيرة معرفية للشاعر كي يكتب قصيدته. والمناسبة الدينية مثل أي مناسبة أخرى، يمكن أن تكون شرفة مضيئة تطل منها شمس الشعر، ويمكن أن تكون كهفا تختنق فيه روح الشعر، وذلك كله يعتمد على موهبة الشاعر ووعيه في مقاربة اللغة إبداعيا.وعندما يتناول الشاعر طقسا دينيا فهو لا يتناوله تناولا دينيا، وإنما تناولا شعريا يخرج بهذا الطقس من حالته العبادية العامة إلى حالة خاصة بالشاعر وحده. والحج شعيرة دينية مثل باقي الشعائر تتوهج عبر التأمل، ويمكن تأويلها شعريا حتى تأخذ بُعدا آخر خارج نطاق العبادة.ويضيف: لا أعتقد أن مسألة الاحتفاء الشعري بالشعائر الدينية وقف على طائفة من الشعراء، فالشعائر الدينية تمثل مخزونا تاريخيا ثقافيا يستفيد منه جميع الشعراء بغض النظر عن انتماءاتهم الشعرية، سواء كانوا حداثيين أم كلاسيكيين. لكن الأهم هو طريقة توظيف هذا المخزون التاريخي الثقافي من أجل صناعة القصيدة. وفي كل منسك من مناسك الحج توجد ممارسات يمكن توظيفها مجازيا مثل السعي والطواف ورمي الجمرات والإفاضة وغيرها من مناسك تتم ممارستها خلال أداء هذه الشعيرة المقدسة. التوظيف المجازي لهذه المناسك في القصيدة يحيلها إلى حالة شعرية بامتياز.سمو روحيأما الشاعر جاسم عساكر، فقد اعتبر أن القريحة الشعرية متصلة اتصالا وثيقا بما يدور حولها من أحداث ومواقف، وأن موسم الحج هو من أسمى درجات السمو الروحي بالنسبة للإنسان المسلم، بما يقدمه من عرض إلهي مهيب ممثل في الطقوس والشعائر، واستدعاء لحظات الصفاء الذهني بالتزامن مع استذكار لحظات هبوط الوحي على الحبيب المصطفى، عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن الحدث يلقي بظلاله الروحانية على الأدب، فتتماهى مفاهيمه المعنوية بمفاهيم الغرض الشعري ومعانيه، وكأن الشاعر يطوف بالبيت الشعري طواف الحاج بالبيت العتيق، ويسعى بين الفكرة والمعنى سعي الحاج بين الصفا والمروة، وهكذا تتحول تلك المشاهد المجسدة الحية الواقعة إلى مشاهد خيالية في ذهن الشاعر، وتتلاقى المشاعر المقدسة في البلد الحرام بالمشاعر الإنسانية في الحرم العاطفي فتتماهى تلك القيم وتتداعى تلك الأطياف فتتشكل القصيدة طوبة طوبة إلى أن يتم البناء، ثم يحل عيد الشاعر ابتهاجا بإتمام القصيدة، كما يحل عيد الحاج ابتهاجا بإتمام المناسك.وأضاف: خاطبت «مكة» ذات قصيدة بهذه الأبيات:أو تذكرين الحج يوم تدافعتزمر الخلائق في فنائك محشرا !!ما كان ضاق بك المكان كأنماكانت حدودك من حدودك أكبراوأنا على طرف المقام تجردتروحي لتسبح في الخيال تفكرافي أي آفاق الطيوف سألتقيبك كوكبا في ناظري مصورا !!إني لأنسج من نضالك في دميبردا، وأشعل بالعواطف مئزراوأطوف حول مشاعري متيمنابالطهر فيك: مهللا ومكبراوعلى فمي الأشعار تنسج محفلامما أتوق: موشحا ومشطراحيث المشاعر والشعائر توأميتفايضان على الدفاتر أسطراوهنا أشدت من القصيد منارةوأضفت فيك إلى المشاعر مشعراانفعال عاطفييعتقد الشاعر حبيب المعاتيق أن الانفعال العاطفي هو الوقود الأكبر الذي به تدور عجلة القصيدة، وكل موضوع يحقق هذا الشرط هو موضوع قابل للتناول الشعري.وأضاف: هناك دفق عاطفي ووجداني لا أحد ينكره في تعاطي الناس بشكل عام مع المناسبات الدينية والاجتماعية، هذه العاطفة -بتفاوتها قوة وضعفا- كفيلة بإنتاج نص شعري مؤثر يستوفي مقومات القصيدة الناجحة.فرح أبيضالشاعر عباس العاشور يرى أنه رغم هذا الظرف الاستثنائي الذي يطوق بذراعيه القويتين هذا العالم، فإننا نصر على التفتيش عن الفرح الأبيض حتى لو كان عبر حثنا على فتح خزائن الذاكرة والعودة إلى الأعياد القديمة التي عشناها في الأمس القريب، حيث كان للفرحة صفة الآدميين، فتأتي تارة على هيئة ابتسامة وقورة على وجوه الآباء وتارة على شكل بهجة حنونة في محيا الأمهات صباح عيد الأضحى، وأخرى تفيض بريئة وعذبة من عيون الفتيات وتتشكل ألعابا صغيرة و«عيديات» ملونة ومتنوعة فوق أيادي الأطفال الصغيرة.ويضيف: كانت الفرحة أجمل طقوس العيد على موائد الأسر المترابطة والعائلات المجتمعة حول ضحكة النهار، الفرحة هي الطقس الأجمل وهي تزفنا إلى صلاة العيد في مسجد القرية الكبير وهي تجمعنا مع أحبابنا حول الفطور الجماعي في المجالس البسيطة في كل بيت وتنقلنا عبر الطرق الضيقة لزيارة الجيران ومعايدتهم وعيادة المرضى وكبار السن المقعدين.. يا الله كيف بقيت هذه الفرحة خالدة في الأرواح كضوء أبدي لا ينطفئ..؟نبض خاصواكتفت الشاعرة مريم الفلاح بالبوح شعرا عن «عرفة»، مؤكدة أن الدفق الشعري والعاطفي في المناسبات والشعائر الدينية له مشاعر ونبض خاص..يا أيها اليوم الذي قد عرفهرب العباد لنا.. وزاد فشرفهدقات قلبك فرصة ذهبيةوكنوز وقتك بقعة مستهدفةالكل يرقب أن تحين لتلتقيبك من مناه حثيثة ومسوفةوالكل جاء بطاعة وعبادةيدلي بها في الأجر حتى يغرفهفإذا انتهيت وما انتهت من غيهانفس المخالف فالنهاية مؤسفة.تحويل الطقوس الدينية إلى حالة خاصة بعيدا عن العبادةالشعائر تلقي بظلالها الروحانية على الغرض الأدبي
مشاركة :