بعد هذا المسار الطويل من العمر لسيرة تكوين علمي وفكري، ولماضي يمضي ولا يمضي إلا ليحضر في شكل الكتابة، في لغة أخرى، في صورة أخرى وبنظرة لم يكن لتكون وتصير إلا من خلال مسارات وسياقات متمفصلة جمعت بين ترابطات متشابكة، بين الفردي والجماعي والمجتمعي، أي بين الذاتي والموضوعي. نظرة اكتسحت العين في بدائية ما قبل تاريخها، ودفعت، عبر تدفق زمن الذات الاجتماعي التاريخي، بالحسي والمباشر، والعفوي التلقائي، الى التراجع والتقهقر. فالعين لم تعن عينا وقد امتلكت لغتها، مفاهيمها المجردة وأدواتها في النظرة والالتقاط، وفي التحليل والتقطيع والتفكيك والتأويل... لقد صارت رؤية ونظرة الى الذات والأخر والعالم، واخترقت حدود ومحدودية عالمها المباشر، وقد امتلك مسافات نقدية تجاه كل ما يقع تحت شاشة مجهر النظرة، أو وهي تتأمل سرديا ما اعتقد الكاتب أنه ضاع، أو اكتسبه من حياته خلال هذا العبور لوحل المعيش اليومي. وكان للكتابة منطق ضرورتها في الذهاب والإياب من الماضي الى الحاضر، أومن الحاضر الى الماضي، في نوع من جدل تبادل تسليط الضوء، دفعا لخطية زمنية رتيبة تفسد تفاعل القارئ مع النص. هكذا حاول سعيد بنكراد في سيرته الفكرية، "وتحملني حيرتي وظنوني" الصادرة مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب، مواجهة خبث البداهة والجاهزية الكامنة في سؤال السيرة العلمية والفكرية المقتضبة والمختصرة. فخلفياته الفلسفية والفكرية والابستمولوجية والأيديولوجية السياسية، انفجرت من حيث لا يحتسب، دون أن يكون مفكرا، ومخططا لذلك بشكل مسبق. لقد كان للسؤال عمقه الرهيب في اشتعال سرد الذاكرة، فاستنفرت منطلقات ومسارات قلقة وممتعة ومؤلمة تمتد عميقا في أدغال ولادة ونشأة وتطور سيرورة سيرة التكوين المفتوحة الأفق عبر مساراتها السابقة، وفي حاضرها الراهن الذي لا يخلو من عنف الصيرورة. وهي محكومة بالحيرة والظنون، كموجه إرشادي (براديغم)، دون أن تعتقد الذات امتلاكها الحقيقة الناجزة والجاهزة والنهائية. هكذا نصبت لعبة السرد فخاخها، فورطت السارد في دهاليز الذاكرة ممتطيا لغة لا تؤتمن على ودائع خلفها سعيد في مرجل الزمن الذي لايكف عن دفقه المؤلم، والجميل الساحر الأخاذ، من خلال توسط الكتابة تبعالمنطق وآليات اشتغالها. مسنودة في ذلك بحصيلة العمر في الخبرة والتجربة والمعرفة والمعايشة، والتكوين الفكري والثقافي. فرحلت به بعيدا في التاريخ الفردي والجماعي والمجتمعي.عادت به الى براءة وشفافية الطفولة الأولى بمنطقة لعثامنة بين الفلاحين وما يميز حياتهم من انسجام وتناغم بساطة فرح وحزن حياة الفلاحين الأقرب الى الاساطير في معقولية معتقداتها وتصوراتها ونمط تفكيرها الواقعي المرئي والخرافي اللامرئي. أمام رعب السؤال المتدفق يرى السارد نفسه بعين أخرى مشحونة بنظرة الأسئلة المحرقة التي لاتنتهي في المسارات الوعرة لصيرورة سيرة التكوين، من البيت الى المدرسة وصولا الى الجامعة، ثم المنفى القسري في فرنسا، مرورا بالاعدادي والثانوي. من محطة لأخرى متعقبا خبث العلامات في الحياة اليومية لمعيش الفلاحين، وفي العلاقات التربوية والبيداغوجية السائدة في المدرسة، حيث بناء المعنى وتوليد الدلالات يمكن أن يتحقق على حساب الانسان دون شفقة ولا رحمة، ولوت طلب ذلك، جعله قربانا رمزيا لحصة دراسية علمته، مع الأيام، كآدم الأسماء كلها."لماذا يبكي سعيد؟ ثم يجيب عن سؤاله: سعيد يبكي لأنه يتيم. وانطلق التلاميذ من جديد يرددون فيما يشبه النشيد السؤال وجوابه، ولم يتوقفوا إلا مع نهاية الدرس وكانت عيناي قد احمرتا من شدة البكاء...لم أنتبه الى "اليتم" كما تسميه هذه الكلمة أبدا في حقيقة معيشي اليومي. ولكن عندما أصبح تيتيما في اللغة تغير كل شيء. هناك عالم آخر يبنى في التمثيل الرمزي يكون في الغالب أشد وقعا من حقائق الوجود الفعلية."30 في ماضيه الجميل يتذكر سعيد يتمه وفقر الاسرة وكل التفاوتات الاجتماعية، كما يتذكر بساطة عالم الناس في ارتباطهم بالواقع بدون مضافات بصرية، وتوسطات رمزية تخلخل العلاقة بالحسي والواقع الحي اليومي المفعم بالتعاون والصدق والمحبة والتآزر بين الأبواب المفتوحة لساكنة القرية التي احتضنت طفولة وشباب سعيد في نمو ونمائه الجسدي والنفسي والعقلي الفكري، والاجتماعي الثقافي، وفق قيم يتحسر من غيابها، الآن هنا، في زمن الخطاب التذكر الملعون والملغوم بعشرات الوسائط والمضافات التي خيبت أمل العين في التنعم والفوز بسحر وجمال وطمأنينة الطبيعة والحياة، حيث الناس"عاشوا وما تودون قلق أوندم"39. يعود الى الماضي ليشهد على نفسه والآخرين والمجتمع، وما أصابهم من تغيرات سوسيولوجية أنتجت تحولات مجتمعية أتت على الأخضر واليابس الذي كان يشكل عوالم الناس في تصوراتهم ومعتقداتهم، في واقعيتهم واستيهاماتهم، الخالية مما يعيشه سعيد الآن من تعقيدات الصورة التي أنتجها الشرط الحضاري الحديث والمعاصر. واستثمرتها آلية السوق بالمعنى الرأسمالي في مرحلة النيوليبرالية الجشعة دون وازع قيمي أخلاقي في التهام كل شيء واستباحة القيمة الإنسانية.بحنين جارف يحايثه ألم المقارنة بالراهن يستحضر سعيد ماضي الفرد والجماعة والمجتمع، حيث لا مضافات رمزية، لا اعلام كاسح ومسيطر، لاقنوات تلفزيونية تفرض نفسها على الزمن الاجتماعي المتدفق بايقاعات أفرزها معيش الناس في إنتاج شروط وجودهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. "كانت أعيننا ترى الواقع وحده، وعندما نحلم، فإننا كنا نفعل ذلك بما يمكن أن يوحي به هذا الواقع. فلم تكن هناك مساحات افتراضية يمكن أن تقترح على العين ما لايمكن أن يلتقطه الحس المباشر... ولم تكن الخرافات التي تحكيها الجدات مختلفة عما يجري حولنا كانت المساحات الافتراضية الوحيدة الممكنة هي ما تأتي به هذه حكايات، ولكنها كانت تعاش في اللغة لا في الصور. فحكاياتنا لم نلتقطها من الشرائط المصورة، بل من أفواه الجدات."35 وفي مرحلة التعليم الاعدادي بمدينة بركان أخذت عين سعيد في التبلوروالتغير والتحول لاكتساب القدرة على الرفض والتمرد ضد ما هو سائد، من فقر ومهانة، كمناضل متأثر بحركة اليسار الجديد. والتمكن أيضا من رؤية ما يحدث في داخل الوطن بفضل الأساتذة الذي وسعوا من مكتسباته العلمية والمعرفية، وأسهموا في تشكيل وعيه السياسي. كما وجد نفسه غارقا في روايات نجيب محفوظ الى حد التماهي مع شخصياتها، واستبطان عوالمها في وجدانه، مع عشقه لرحابة اللغة في ضيافتها للذاتي، وهو يكتشف خيبة أمل النص، في تحوله أو انتقاله بأدوات السمعي البصري التي تحاصر الذات وتخنق أمل النص في حدود زاوية ضيقة. هذا ما أثبته تجربته أمام الشاشة، وما تؤكده الآن معرفة سيرة التكوين. "إن الطاقة الانفعالية في التمثيل اللساني ستظل أقوى من كل معادلاتها في الانساق الأخرى. ذلك أن مصدرها الحقيقي هوما لا يقوله القصد النصي، أي ما ينبع من كل الاحالات غير المتوقعة من ظاهره، بل قد تكون ما يأتي به القارئ نقيضا لما يوحي به هذا القصد... يتعلق الامر بصيغة أخرى، بلا وعي نصي مودع في ذوات تختلف عن بعضها البعض من حيث درجة الوعي والثقافة، ومن حيث الطاقة الانفعالية التي قد لا تتجلى في ظاهر العلامة."46 جدل التناقض بين أسئلة الواقع، وأجوبة الجامعة نتعرف مع سعيد واقع الجامعة في برامجها ومناهجها، البالغة الفقر والضحالة، والبعد الرهيب عن مفهوم ومعنى الجامعة كمنبر للمعرفة الحية الحديثة، التي تواكب التطور الفكري والعلمي والثقافي، والتربوي البيداغوجي، في مضامينها وأدوات وآليات اشتغالها وتصريفها لبرامج ومناهج ذات اقتدار علمي وتمكن معرفي في الخلفيات الفلسفية والمعرفية والابستيمولوجية والأيديولوجية. وكمنبر للتكوين والحرية والابداع والحوار والبحث والنقاش العلمي الرصين. ما يعتمل في الواقع من أسئلة اجتماعية وسياسية وفكرية ثقافية، ومن تطلعات وطموحات في التغيير والعيش بحرية وكرامة، لاتجد هذه الأسئلة صداها، كما لا تجد إجابة موضوعية لا على مستوى التكوين المعرفي العلمي، ولا على مستوى مقاربة الواقع في أزماته وانسداداته. خاصة وأن أسئلة المضمون الاجتماعي والسياسي للاستقلال كانت تطرح نفسها بإلحاح في لقمة العيش والعلاقات الاجتماعية، والتحكم السياسي في المجتمع والدولة: في الكرامة والحرية. في ظل هذه الظروف والمعطيات التي أتى عليها سعيد في سرده المتهاطل المحموم، كان طبيعيا أن تعتلي منصة التكوين المعرفي والوعي السياسي الاجتماعي، الأيديولوجية، فتلغي كل الحقول الأخرى، وكل المقاربات الفكرية والمنهجية. وأصبح الجميع مطالبا بالتحيز الأيديولوجي لأدبيات اليسار الجديد. وزادت نزعة التقليد والجمود والتخلف المعرفي العلمي السائدة في برامج ومناهج ومقررات ودروس الجامعة، من غلبة الأيديولوجية على الساحة الجامعية، التي كانت بمثابة فراغ ملأته حركة اليسار بتصوراتها ومواقفها الأيديولوجية بالمعنى المتصلب المجافي لأية مرونة في التنوع والتعدد والاختلاف. وجه واحد لسلفيات النصوص الدينية، واليسارية، الى جانب سلفية التكرار القهري للتلقين الجامعي ذي الأسلوب العمودي"بضاعتنا ردت إلينا"القاتل للحرية والابداع والتفكير النقدي. الشيء الذي حرم الطلاب من التكوين المعرفي والعلمي الرصين القادرة على منحهم أدوات مقاربة الحقل الاجتماعي السياسي في مشاكله وصراعاته المختلفة المستويات. هكذا وجد سعيد نفسه في سيرورة هذه المعطيات الجامعية والمجتمعية مناضلا في صفوف اليسار السري ممثلا في لمنظمة23 مارس. "وكان النظام مستبدا، رغم كل المراجعات ومحاولات التجميل التي قام بها البعض، وحاول أن يوازي فيها بين أخطائنا وأخطائه. فنحن كنا عزلا، ولم نخطئ في حق الوطن، بطشوا بنا وعذبنا وهجرنا من وطننا ومات العض منا. ووجهنا بقوة لا قبل لنا بها كانت تريد اقتلاعنا من الأرض التي ولدنا فيها، وإسكات كل الأصوات المناهضة أوالمعارضة لسياسته.67 يوجه سعيد نقدا صريحا لتجربته النضالية في علاقته مع نفسه والاخرين، محاورا الشرط الحضاري والبؤس الفكري الذي أحاط بالتجربة. دون أن يعني ذلك التنكر للماضي والتجربة رغم أخطائها، كانت تنطلق من القناعة المبدئية بالقيم الإنسانية. في ظل هذه الأجواء أهمل الادب، وكان النص مجرد ذريعة ومطية للخطاب الأيديولوجي. ولا مكان للمتخيل، والأدبية، وللقيمة الجمالية أمام متطلبات التعبئة والتحريض التي ولدتها القناعات الجاهزة للكتب المقدسة اليسارية. هي زاوية نظر مختلفة بخلفياتها الفلسفية والمعرفية والنقدية التي سيتعرف عليها سعيد في منفاه بباريس بعد خروجه من السجن والهروب عبر الجزائر الى فرنسا حيث تابع دراساته العليا التي مكنته بعد سنوات التكوين العلمية من مناقشة دكتوراه السلك الثالث، الشيء الذي خول له الاشتغال بالجامعة كممارس تربوي جامعي. فرنسا القاعدة الأساس لسيرة المسار العلمي في فرنسا يكتشف سعيد متاحا حضاريا آخر، وواقعا اجتماعي سياسي ديمقراطي لا علاقة له بالاستبداد الذي دفعه مكرها الى ركوب مخاطر الهجرة. كما سيتعرف على واقع تعليمي تربوي وأكاديمي في برامجه ومناهجه ومقرراته مختلف كليا عما هوسائد في بلده. كما أن الاهتمامات والتطلعات والطموحات والنضالات الفردية والجماعية والمجتمعية تخطت السقف الهزيل لما كان يحلم به كفرد وكتصورات ومواقف فكرية سياسية مناهضة للجمود والتخلف والقهر السياسي الاجتماعي. وما كان لكل هذا أن يتولد من فراغ بل هومؤسس على أسس وبنيات وتراكم في الحركة الفكرية والتنويرية، والتحولات الاجتماعية للحداثة في انفتاحاها المستمر على الصيرورة والتغيير في القوانين والقيم والعلاقات والتعاقد المجتمعي الخاضع دوما للتقييم والمراجعة النقدية والاحتجاجات النضالية كما حدث في ثورة 68 التي هزت المجتمع الفرنسي ومنحته أفقا آخر وبراديغم لم يكن في حسبان جمود السلطة والمجتمع. هكذا سيجد سعيد مناخا تربويا وأكاديميا وتعليميا مرتبط بشكل أوبآخر بالحياة المجتمعية وما تفرضه التغيرات السوسيولوجية. لذلك وجد نفسه أمام خلفيات فلسفية ومعرفية ومنهجية وايديولوجية تؤسسه الاليات والأدوات المفاهيمية والمقاربات المنهجية. ولم تكن تلك الأدوات مجرد جهاز مفاهيمي إجرائي معزول عن تلك الخلفيات، وذلك التناغم الجدلي بين الجامعة والشارع والمجتمع. هكذا تعرف سعيد على هذه الأسس ومنهجياتها الحديثة في التعامل مع المتخيل والمحتمل والممكن والواقع الذي تبنيه طبيعة النص ومنطق الكتابة وآليات اشتغالها في اختلاف جذري مع الواقع الأيديولوجي المباشر. "في الجامعة كان علي أن أبدأ من جديد، كان علي أن أنسى قبل أن أبدأ التعلم. كان علي أن أنسى كل ما تعلمته عن الواقعية، والواقعية الاشتراكية، والنقد الأيديولوجي، وما تعلمته عن البنيات التحتية والفوقية لكي أعود من جديد الى النص، فلا خلاص للناقد خارجه، وهي عبارة مشهورة لألجيرادس جوليانكريماص، أحد أقطاب السميائيات السردية."107 الى جانب الكثير من الأساتذة الكبار كتودوروف وكريستيفا ومحمد أركون. وبذلك كانت باريس بمثابة القاعدة الأساس لتشكل حقيقي لسيرة المسار العلمي لسعيد. فانخرط في هذه الأجواء بكل حيوية وفاعلية وشغف متحديا ظروفه المادية، راغبا في التكوين العلمي الحقيقي، والتثقيف الفكري الرصين. فتفرغ للقراءة والبحث ومواكبة المحاضرات بجدية واهتمام. وهذا ما جعله يولي اهتماما كبيرا للمنهجيات الحديثة في النقد الجديد، خاصة السميائيات السردية التي جعلها مقاربة لرسالة الدكتورة. مع الإشارة الى أن وعيه النقدي وانفتاحه الفكري والفلسفي في التأسيس للتصورات والرؤى التي يراها جديرة بأن تملك عن حق القدرة على النقد وتفكيك مختلف الخطابات اللغوية وغير اللغوية، والعلامات والنصوص، جعل تعامله مع كل هذا خاضعا للتطور والاغتناء. فقد استفاد من السميائيات السردية وغيرها، كما وسع من أفقه النقدي المعرفي والمنهجي، من خلال اطلاعه على أعمال بورس، وما أنتجه أومبرتوايكو، مستندا الى جهد هذا الأخير، من كتابات لها علاقة بتأويل النص الأدبي. وقد قام سعيد بترجمة الكثير من هذه الاعمال سواء لكريماص أوإيكو. جامعتهم وجامعتنا وهو يتذكرهذه الأجواء الفرنسية الجامعية الساحرة في تأطيرها العلمي وتكوينها النقدي، وغناها الفلسفي والمعرفي، وعلاقاتها التنافسية، يحضر البؤس الجامعي المغربي راهنا، وما يميزه من طائفية انغلاقية في التكوين والتأطير وانفصال التخصصات "وكذا الحروب الصغيرة والكبيرة بين الأساتذة خارج أي سجال علمي أو تربوي. رحم الله الجامعة المغربية." 110 هذا ماجعل سعيد في سياق هذا التذكر لمسارات التكوين في الجامعة الفرنسية يتألم على الحالة المزرية التي تعيشها الجامعة المغربية في البرامج والمناهج، وفي العلاقات والعقليات والذهنيات التي تؤسسها ثقافة الولاء لا ثقافة الإنجاز. فما يدرس لا علاقة له بأية قيم فلسفية علمية معرفية، بل هو غارق في الرداءة والتكرار القهري. "هذا دون الحديث عن المحسوبية في تولي المناصب ومحاربة الكفاءات والحط من شأن البحث العلمي. هناك قوة جمود رهيبة تنشر سلطانها الآن في أغلب الفضاءات الجامعية وتقف في وجه كل تغيير" 116 . لقد قام سعيد باعتباره أستاذا جامعيا بتعرية نقدية لواقع الجامعة المغربية التي لم تستطع أن تنهض بالمهمات الجديرة بها كمؤسسة علمية، في مواكبة حياة الناس والتحولات المجتمعية التي أنتجتها التغيرات السوسيولوجية. بالإضافة الى التكوين العلمي المؤسس للقيم الفلسفية والأخلاقية القيمية. وأنت تقرأ سيرة سعيد بنكراد تشعر بنوع من المرارة والألم حين يتناول المستوى الوضيع والدوني التي وصلت إليها الجامعة المغربية، وهي تحتضن قيم الولاء والطاة والخنوع والتكريس للتعفن السائد. الجامعة التي كان من الضروري تبعا لموقعها في حياة المجتمعات أن تكون الصوت الحر النقدي والابداعي الحالم والمتمرد على التقليد والجود. إنها الموقع المنتج للاقتدار المعرفي والتمكن العلمي والتقني، وللقيم العلمي والفلسفية الاخلاقية. للأسف أن تصل الجامعة الى هذا المستوى المنحط لحروب الحارات والفتوة ويحارب المثقف النقدي، وتحاصر الكفاءات ويفسح المجالات لكل ما يسمح بمعاودة إنتاج الجهل والتسطيح للسيطرة على العقول، والتحكم في الادراك والتحجيم من قدر الثقافة النقدية والعلمية القادر على منح المجتمع كفاءات نقدية وأدوات معرفية فكرية مؤسسة فلسفيا ومعرفيا وابستمولوجيا. الشيء الذي يمنح تلك الأدوات والمقاربات النقدية والمنهجيات الحديثة القدرة على التحليل والنقد والتنوير، وتعرية البداهات التي تتلبس الطبيعي كقانون حتمي لا مفر منه، لتضع نفسها خارج التاريخ ومبدأ التناقض الاجتماعي. من النص الى السميائيات التأويلية تبعا لهذا الوعي الفكري والنقدي مارس سعيد الى جانب مجموعة من الأساتذة الجدد فعل التدريس بجامعة مكناس، حيث "أصبح التفكير في الأداة التي تقود الى الفهم هوالأساس في الدرس الجامعي."184 لهذا عرفت السميائيات طريقها الى الطلاب الذين تلقوا بترحاب ورغبة مفعمة بشغف التعرف على المنهجيات الحديث في التعامل مع النصوص ثم مع الصورة، خاصة في الدروس المتعلقة بالخطاب الاشهاري. واستطاع الأستاذ تحبيب هذه الدروس الى الطلبة وهي تكشف لهم عما تخفيه البداهات في لعبتها الخطرة الى تعتيم الخلفيات والاهداف، من خلال تسطيح الوعي. بالإضافة الى الكفايات العلمية المنهجية التي ميزت السميائيا في تعاملها مع النصوص السردية. لقد فتحت هذه الشعبة في وجه الطلبة آفاقا معرفية وأدبية وفلسفية. وأتذكر كيف كنا نتلقى هذه الدروس بحماس واهتمام معرفي، خاصة وأننا نتعرف على منهجيات جديدة في النقد الحديث، كانت دروس سعيد بنكراد من ضمنها. ومن ثمة تعلمنا أن ليس هناك خطاب بريء ولا شفاف، بل لا بد من التسلح بالخلفيات المعرفية والأدوات المفاهيمية القادرة على التعامل مع النصوص والصورة وكل الخطابات الرائجة. ومثلما كان اهتمامنا بالشأن الطلابي والسياسي، استطعنا أن ننهل من هذا النضال المعرفي الأكاديمي الذي مارسه مجموعة من الأساتذة الذين كنا نحترمهم ولا نزال ولهم فضل كبير علينا. في سيرته هذه نتعرف على التحولات والاهتمامات والهواجس التي كانت تؤرق سعيد دون أن يعيش نوعا من التثبيت (بالمعنى النفسي المرضي) على السميائيات السردية. فقد كان من خلال قراءات لكل من بورس وإيكووبارث وريكو، الى جانب الاهتمام بالاساطير والمحكيات، يكذب نفسه باستمرار ( ليس بالمعنى الأخلاقي بل بمعنى كارل بوبر). "لم تعد أجوبة كريماص كافية لامتصاص القلق الداخلي، فلم تكن النظريات عندي مجرد كم معرفي مودع في الكتب، أومبادئ تلقى على الطلبة في المدرجات، لقد كانت رؤية للعالم، إنها دفاع عن قيم أودعوة إليها. فأنا لم أنس أبدا قناعاتي في السياسة والايدولوجيا، كنت أحاول صياغة موقف جديد يتسع لهذه القناعات ولخصوصية النص في الوقت ذاته. مايشبه سميائيات قادرة على احتضان الهم الإنساني من خلال خطاب أكاديمي لا يتخلى عن صرامة العلم وإكراهاته، ولكنه لا ينسى أيضا أن موضوع المعرفة هو الانسان ذاته ولا شيء غيره."188 هكذا كبرت أسئلته وصار يبحث لها عن آفاق أخرى. فمارس عملية التأليف حيث أصدر مجموعة من الكتب والمقالات، بالإضافة الى ترجمة كتب نالت رضا القارئ المغربي والعربي فتجددت طبعاتها. وخلال هذه التجربة الجديدة التي أينعت فيها أسئلة المراجعة النقدية وتطوير المسار العلمي تم إصدار مجلة علامات التي واصلت صدورها الى اليوم. لقد واجهت سعيد الكثير من المصاعب في مساره العلمي، لكنه لم ينحن للعاصفة بذل ومهانة، بل حافظ على استقلاليته وحريته وكرامته، متشبثا باختياراته وقناعاته، مفضلا الانسحاب من حروب طائفية الماسترات التي اكتسحت الجامعة بعقلية أحادية شديدة الانغلاق في فتح المجال للذين لم يكتبوا ولو مقالا أو بحثا علميا محكما رصينا. وانشغل بأبحاثه العلمية في تناول النصوص والخطابات. مساهما بشكل كبير في تسليط الضوء على عصر الرقمية وسطوة الصورة، كاشفا عن جشع آلية السوق النيوليبرالية بأدواتها الرقمية في السيطرة على الوعي والتحكم في الادراك. واستباحة قيمة وحصانة كل القيم الإنسانية. لم يكن اهتمام سعيد بالخطاب الاشهاري فجائيا، ولا سليل موضة تهريب المفاهيم والأدوات الإجرائية كما شأن الكثير من الأقلام التي تكن في مستوى الالمام بالخلفيات الفلسفية والمعرفية والابستمولوجية والأيديولوجية التي يمكن من خلالها أن يبلور الباحث والطالب زاوية نظر نقدية ورؤية للعالم تفكر عالميا وتتصرف محليا. خاصة وأننا نعيش شرطا حضاريا فيه السيطرة للاعلام والرقمي الافتراضي الذي التهم كل المساحات وأتى على الانسان مبعدا إياه عن واقعه الحي سالبا منه حميميته وخصوصية هويته الفردية، فبات عاريا. وفي هذا السياق وتبعا لتطور سيرورة مساره العلمي وقناعاته الفكرية والسياسية ترجمة كتابين "الانسان العاري"و"أنا أوسيلفي، إذن أنا موجود". لم يكن ممكنا تغطية كل ما جاء في الكتاب الذي ننصح القارئ بالاطلاع عليه.
مشاركة :