هنالك، وراء سحر الجبال وعلى ضفاف زرقة مياه الخليج تجدها، هنالك فقط تلتقي عبقرية التاريخ وحكمة الجغرافيا. واحة يتعانق فيها الماضي بقدمه وأصالته مع المستقبل بحداثته، مدينة فاضلة وصلت ببسطائها إلى العالمية بلا منازع. برقع إماراتي يحمل جميع فنون التراث وأصالة العادات يتربع على عرش النجومية في العاصمة الإيطالية روما. جهد ومثابرة وإرادة وأمل وتفاؤل ودعم من حرم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، والمؤسس والرئيس الفخري لمجلس سيدات أعمال الشارقة، الذي بدأ مشروع بدوة ليجعل من أم أحمد المواطنة الإماراتية البسيطة صانعة التلي، نجمة في سماء أوروبا تستقي منها الماركات العالمية فنونها. إليها في مدينتها دبا الحصن ذهبنا، ومعها جلسنا، وإلى مجموعة النساء اللاتي تدربهن أنصتنا، لننقل عبر السطور المقبلة تفاصيل تجربة نجاح فريدة من نوعها. ترك لنا الأسلاف من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي الذي يحق لنا أن نفخر به ونحافظ عليه، ونطوره وليبقى ذخراً لهذا الوطن وللأجيال المقبلة، وحدها فقط تلك الكلمات، التي قالها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كانت رفيقتي في رحلتي إلى المدينة العريقة دبا الحصن. تلك العبارات البسيطة في شكلها، والعميقة في مضمونها عندما تتأمل حروفها يزيد يقينك بالفلسفة والحكمة التي تقوم عليها دولة مثل الإمارات، استطاعت بجدارة وبكفاح أن تُحقق المعادلة الصعبة في حفر اسم وكيان لنفسها، فحققت الأرقام القياسية بين دول العالم في كل المجالات المرتبطة بالتقدم والتكنولوجيا والعولمة، ولكنها أبداً لم ولن تنس تاريخها وأصالتها وعَبق ماضيها، فكان تراثها ذخراً وفخراً مُتوجاً على رأسها. هكذا كنت أتحدث مع نفسي صامتة متأملة مستسلمة لتلك الحالة التي جذبت كل حواسي طوال الطريق من الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية والسياحة العربية إلى مدينة دبا الحصن، تلك الواحة التي يسترخي فيها الماضي مستدعياً ذكرياته متحصناً بأدوات الحداثة. خطفتني الطبيعة الخلابة التي تجمع بين قسوة الجبل ويود البحر، فيها تشعر أن الأول يخلع عباءة الصلابة ليذوب أمام أمواج الثاني الهادئة. استحقت بجدارة دبا الحصن أن تلقب بالمدينة الفاضلة، والحقيقة أن وصفها ليس مرتبطاً بمدينة أفلاطون الافتراضية، بل بمدينة عربية إسلامية تجعل العدل والأمن معياراً للفضيلة، وترى في جوهر الإسلام وروحه فضاءً للرفعة. ويبدو أن هذا هو المغزى الذي جعل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم إمارة الشارقة، يصفها ويلقبها بالمدينة الفاضلة أثناء زيارته لها في عام 2006، ولقائه مع أهالي المدينة، حين قال سموه: نتمنى أن تعملوا معنا للارتقاء بهذه المدينة لتصبح المدينة الفاضلة. أفقت من حالتي على صوتها، مهللاً عبر هاتفي. أم أحمد، التي تابعتني كوالدتي للاطمئنان أنني قطعت الطريق بسلام، لحظات وكنت أمامها لتستقبلني بحفاوة وود في بيتها الصغير الذي حرصت أن تجعله حاملاً لكل ما يمت للتراث الإماراتي بصلة. لم تفضل أم أحمد بدء الحديث عن نفسها وعن انطلاقتها من مدينة عريقة تاريخية صغيرة إلى فرنسا، حيث المهرجانات والماركات العالمية، بل فضلت أن تتحدث عن مشروع بدوة الذي دعمته ووقفت وراءه سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي. وقبل أن تتحدث الستينية في العمر، اصطحبتني من يدي إلى تلك الغرفة الصغيرة التي تتوسط منزلها، فإذا بي أفاجأ بكم من البراقع الإماراتية الأصيلة التي تظهر من خلفها تلك العيون اللامعة المتألقة، نحو 20 مواطنة تتدرج أعمارهن بين الشباب والشيخوخة يتربعن على السجاد اليدوي الإماراتي وينسجن بأيديهن الفنانة أحلى ما يمكن أن تراه عيناك. هذا هو مشروع بدوة، هكذا بادرتني أم أحمد، قائلة: مجموعة من السيدات أدربهن على عمل مختلف الفنون الإماراتية، وأرسل منتجاتهن اليدوية إلى مكتب سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، والذي يسوّقه بدوره دولياً وعالمياً، وصمتت أم أحمد لتفتح مجالاً للحديث لتلميذاتها. تعالي يا بنيتي ما إن سمعت صوتها إلا ودبت قشعريرة في جسدي، وكأنني أنصت لصوت أمي، أشارت إلي بالجلوس إلى جانبها فلبيّت على الفور، كانت تحتضن بين يديها بعضاً من سعف النخيل وبمهارة وسرعة كانت تلفه بين أصابعها لتُخرج أشكالاً وأنواعاً من الأواني التي بالتأكيد سأعرف أسرارها منها. الحاجة سلطانة أحمد علي، هكذا تُعرّف نفسها، وقبل أن أسألها، أكملت حديثها، قائلة: من خلال الخوص نصنع الكثير من الأغراض التي تستخدم في حياتنا اليومية، ومنها مثلاً (الشلبدان)، الذي يستخدم لوضع المكحلة بداخله، أما عن أوراق السعف التي تصبغها بألوان مختلفة، فهي أساس تراثنا الذي نعتز به، فنصبغ الخوص بطريقة سهلة، عندما نضع الصباغ في قدر من الماء، وتوضع فيه أوراق السعف، ونتركه في الماء نصف ساعة تقريباً، ثم نجففه بعد الصبغ مباشرة، ونلونه أحياناً بأكثر من لون، مثل الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر، أما طريقة الحياكة فتكون بوضع كميات من السعف، وتحاك مثل ضفائر الشعر، وتستخدم كميات كثيرة من السعف المقطع رفيعاً، وتتم إضافة الخيوط عندما تنتهي طولياً، وتستخدم عرضياً مع القطع المستديرة والكبيرة. هنا في (بدوة) وجدت نفسي وشعرت بالفخر لأنني أسهم في تسويق منتجاتنا التراثية القديمة إلى العالم. ومن الخوص إلى التلي، تتحدث شيخة سرحان التي تبلغ من العمر 70 عاماً، تقول: عندما علمت بمشروع (بدوة) الذي تدعمه سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، طلبت من الحاجة أم أحمد أن أنضم إليه خصوصاً أنني أجيد فن التلي، وساعدتها على تدريب الفتيات الصغيرات. قاطعتها في الحديث عائشة المليحي، قائلة: نحن نعتبر أنفسنا نؤدي عملاً وطنياً، ألا وهو الحفاظ على تراثنا، لذا ندرب الجيل الجديد الذي لم يعد شغله سوى فيس بوك، كما أننا نقدم هذا التراث الذي نعتز به لدول العالم ليتحول إلى ماركات عالمية، والتلي والسدو من أصعب الفنون ومن أجملها وأغلاها أيضاً. تلتقط أطراف الحديث مريم عبد الرحمن، لتتحدث بحب عن فن التلي قائلة: بداية، أدين بالفضل لجدتي التي علمتني تلك الحرف القديمة المختلفة، خصوصاً فن التلي، الذي نعتبره الأصل في فنوننا التراثية. وكانت تمارسه النساء في قديم الزمان، وتسمّى هذه الحرفة (تلّي بوادل) أو (تلّي بتول)، وهو شريط مزركش بخيوط ملونة أبيض وأحمر، وخيوط فضيّة متداخلة تستخدم (الكوجة) في عمل التلّي. والكوجة هي الأداة الرئيسية للتطريز وتتكون من قاعدة معدنية على شكل قمعين ملتصقين من الرأس، وبهما حلقتان على إحدى القواعد لتثبيت وسادة دائرية تلف عليها خيوط الذهب والفضة للقيام بالتطريز. الجميل والعبقري هو ما عرفته، من أن تلك المجموعة من الحرفيات اللاتي يعملن في مشروع بدوة ويتبادلن الأدوار بين التدريب والتعليم، يملكن إصراراً وحرصاً شديدين على تعليم وتدريب بناتهن وأحفادهن من الفتيات على تعلم فنونهن التراثية، ويعتبرن الأمر واجباً وطنياً، أما عن الفخر بوصول منتجاتهن لدول العالم فحدث ولا حرج، والجميع أرجع الفضل لسمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، المؤسس والرئيس الفخري لمجلس سيدات أعمال الشارقة، الذي أسس لمشروع بدوة الذي تبنى مواهبهن وعمل على صقلها ووصولها إلى العالمية. السدو والنقوش السدو هو الأساس، وإذا كنتِ تنوين الحديث عن فنوننا التي وصلت إلى العالمية، فلا تنسي هذا الفن، هكذا تؤكد الحاجة آمنة أحمد، وتضيف: هو أهم فن في تراثنا وأهم ما فيه هو الصبغ في الألوان، وغالباً ما نستخدم نباتات طبيعية في الصباغة منها الحناء لتعطي اللونين الأسود والأحمر، والعصفر ويعطي اللون الأصفر المائل إلى الاحمرار والزعفران والكركم، أما قَرْف الرمان فيعطي لوناً مائلاً للخضرة، كما يُستخدم في تثبيت اللون، كما تستخدم (النيلة) وهي عبارة عن قطع من الحجر الطبيعي الجبلي لتعطي لوناً أزرق، أما العرجون فيعطي اللون البرتقالي.وتوضح الحاجة خديجة سرحان، العلاقة بين السدو وألوان البادية العربية المستمدة من الصحراء والجبال، قائلة: لا تنسي أيضاً النقوش، ومن أهمها: الضلعة والحبوب والعين وضروس الخيل والمذخر، وهي على شكل معين، والعويرجان، وتأخذ شكل الخط المتعرج، غير أن أصعب تلك النقوش هي (الشجرة) كونها تحتوي على أشكال بداخلها ولا تتقنها إلا الناسجة الماهرة، وتحتوي على مجموعة من النقوش المتشابكة من المثلثات والعين والحلق والمبخر، إضافة إلى أشكال الثعابين والجمال، وقد تكون الشجرة عبارة عن كتابة لعبارة معينة، وغالباً ما تكون باللونين الأبيض والأسود. من دبا الحصن إلى فلورنسا أم أحمد المواطنة الإماراتية البسيطة صاحبة الستين من العمر، والتي بدأت في مدينة دبا الحصن بعمل فردي لها في عمل كل الفنون الإماراتية التراثية خصوصاً التلي، وعندما رأتها قرينة صاحب السمو حاكم الشارقة، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، في إحدى زياراتها لمدينة دبا الحصن، تبنت أعمالها التراثية، ومن خلال مجلس سيدات أعمال الشارقة بدأ مشروع بدوة الذي جعل أم أحمد، تقف على منصة أحد أهم معارض الأزياء في مدينة فلورنسا بإيطاليا لتقدم فنونها وتحصل أيضاً على تكريم دولي. عن حكايتها تتحدث أم أحمد، قائلة: هي بالفعل أمنا التي نعتز ونفخر بها، إنها سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، التي جعلتني أصل إلى العالم وترى تطريزاتي التراثية النور، لم تبخل علينا وطورت مهاراتنا، ورسالتها دائماً تتلخص في تمكين المرأة الإماراتية العاملة والبسيطة، على حد سواء، اقتصادياً ومهنياً وإبراز إنجازاتها المهنية والحرفية في أرقى المحافل الدولية، فذهبت في رحلة إلى إيطاليا حيث إنها أشهر الدول في عالم التصميم والأزياء في العالم، وبالتعاون مع مجلس سيدات أعمال الشارقة، عُرضت أزياء لمجموعة من المصممين الذين استخدموا تطريزاتنا التي استخدمناها من التلي في كل أزيائهم. وتضيف: المعرض يعتبر واحداً من أشهر معارض الموضة والأزياء على مستوى العالم وأكثرها جذباً للمصممين والمتخصصين والمهتمين بهذا المجال، وهذه الرحلة لن أنساها وستظل محفورة بداخلي فهي بالنسبة لنا قمة النجاح. فما يشغلني ومجموعتي من النساء اللاتي أدربهن، هو كيفية الحفاظ على هذا النجاح وأن نكون دائماً عند حسن حظ الوالدة الفاضلة سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، وأن يكون مشروع (بدوة) صورة مشرفة لمجلس سيدات أعمال الشارقة الذي تترأس مجلس إدارته أميرة بن كرم، التي تساعدنا وتقدم لنا كل الإمكانيات وبشتى الطرق من أجل أن نواصل نجاحنا للوصول إلى العالمية بشكل أكثر تقدماً وتطوراً مع الحفاظ على تراثنا الذي يشكل هويتنا الوطنية العريقة.
مشاركة :