فشلت السياسة في خلق حالة مستمرة من التعاون بين دول العالم، ومازال الصراع هو السمة المميزة للعلاقات الدولية، وإذا كانت الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب الكونية حتى الآن، فإن الحروب الصغيرة التي قامت بعدها قد مثلت بديلاً لا يستهان به في التعبير عن السمة الصراعية للعلاقات الدولية، بدءًا من الحرب في شبه الجزيرة الكورية، إلى الحرب في الهند الصينية، إلى حروب الشرق الأوسط، إلى حروب القرن الإفريقي. وإلى جانب الاقتتال العسكري، كانت الحروب التجارية التي لا تقل في ضراوتها، وأدخلت العالم في عدة أزمات، أطاحت بجهود التنمية في كثير من البلدان. وحتى وقتنا الحالي، لم يستطع العالم أن يطور آلية تكفل للقانون الدولي احترامه، وتجبر من يخرج عنه على الالتزام بقواعده. حيث مازالت قاعدة القوة هي السائدة في العلاقات الدولية، وعلى أساسها استنت الولايات المتحدة لنفسها مبدأ الحروب الاستباقية، الذي أتاح لها غزو أفغانستان، ثم العراق من دون أي اعتبار للأمم المتحدة وميثاقها ومنظماتها. ومازالت كثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي خلصت إليها دول العالم من خلال الأمم المتحدة من دون تصديق من دول كبرى قوية، كاتفاقية الأمم المتحدة للأنهار الدولية 1997 التي لم تصادق عليها إلى الآن روسيا والصين؛ لأنهما دول منابع ترفض أن تقيد تصرفاتها في أنهار تنبع منها وتصل إلى دول أخرى. غير أن التغيرات المناخية التي أصبحت تواجه دول العالم بأكمله، وكانت نتاج النشاط البشري - منذ أن بدأت الثورة الصناعية، والانبعاثات الحرارية والتلوث بأنواعه، ومن ثم الاحتباس الحراري- أحدثت كوارث طبيعية، نتج عنها خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات الخاصة والعامة. وفي الأيام الماضية رأينا الفيضانات التي اجتاحت ألمانيا، وبلجيكا في أوروبا، والصين، والهند في آسيا. وفي كل عام تتكرر مثل هذه الكوارث، وأصبح هذا التهديد البيئي ماثلا يهدد كثيرا من الدول بالاختفاء كليا أو جزئيا، فيما إذا أدت زيادة الحرارة إلى ذوبان جليد القطب الشمالي. ومع أن بلدان العالم قد توصلت في 9 مايو 1992 إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، التي حددت التزامات كل دولة إزاء هذا التغير، التي بدأ نفاذها منذ 21 مارس 1994، فإن الحكومات أدركت أن أحكامها غير كافية. ومن ثمّ، عقدت الدول الأطراف في برلين مؤتمرها الأول في 1995 لتطلق جولة جديدة من المباحثات، تصل بعد عامين ونصف العام إلى اتفاقية «كويوتو» في ديسمبر 1997 التي حددت التزامات واجب تنفيذها على عاتق الدول الصناعية الكبرى، وقد بدأ نفاذ هذه الاتفاقية في 18 نوفمبر 2004 بعد تصديق 55 دولة من أطرافها عليها. وفيما غدت اتفاقية «كويوتو»، ملحقًا للاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن المناخ، فإنه حتى يونيو 2007 كان قد صادقت عليها 191 دولة، حيث أوجبت على الدول الصناعية أن تعيد مستوى الانبعاثات الحرارية في عام 2000 إلى المستوى الذي كانت عليه في عام1990، غير أنه في عام 2001، أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من بروتوكول «كويوتو» بحجة أن تكاليفه الاقتصادية أكبر بكثير من المنافع التي قد تتمخض عنه، وفيما تظل الصين تعتبر نفسها دولة نامية، فقد طالبت واشنطن بامتداد الالتزامات إلى الدول النامية، علمًا بأن الولايات المتحدة وحدها مسؤولة عن 25% من كمية الغازات الدفيئة. وتوالت جهود الأمم المتحدة لمواجهة تحدي التغيرات المناخية، فكان «مؤتمر كوبنهاجن» 2009، و«مؤتمر دربان» 2011، و«مؤتمر ليما» 2014، و«مؤتمر باريس» 2015، و«مؤتمر مراكش» 2016. ومنذ «مؤتمر كوبنهاجن» عقدت الأمم المتحدة 21 مؤتمرا، ومنه أيضا كان الالتزام العالمي بتحقيق هدف مشترك للحد من الاحتباس الحراري لأقل من درجتين مئويتين، والتزام الدول المتقدمة بتقديم 100 مليار دولار سنويًا حتى 2020 لصالح الدول النامية للتعامل مع تغير المناخ، وهو ما لم يتحقق. وخرج «مؤتمر باريس»، باتفاقية باريس التي تم التوقيع عليها في نيويورك في 22 أبريل 2016، وتطبق على كل الدول بهدف الحد من الاحتباس الحراري لأقل من 2 درجة مئوية، وتحل هذه الاتفاقية محل اتفاقية «كويوتو»، ويتعين على كل الدول المتقدمة والنامية، الغنية والفقيرة الالتزام بها، وتدخل حيز التنفيذ بتصديق 55 دولة عليها. إلا أنه في يونيو 2017 أعلن الرئيس الأمريكي، «ترامب»، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، وأبلغ الأمم المتحدة بهذا الانسحاب في 4 نوفمبر 2019، وذلك بعد ثلاث سنوات من نفاذ الاتفاقية، ودخل هذا الانسحاب حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2020. واستشعارًا للخطورة التي مثلتها هذه الخطوة في العودة بالتوافق الدولي حول مواجهة تغير المناخ إلى نقطة الصفر، إذ تعطي الخطوة الأمريكية ضوءا أخضر لآخرين كي يسلكوا هذا المسلك، كانت أولى قرارات الرئيس الأمريكي «بايدن»، بعد انتخابه توقيع أوامر تنفيذية لإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، بل نظمت واشنطن قمة مناخ في أبريل 2021، شدد فيها «بايدن» على الواجب الأخلاقي والاقتصادي في مكافحة التغير المناخي، ووعد بأن تخفض بلاده انبعاثات الغازات الدفيئة بنسب تتراوح بين 50 و 52% بحلول 2030، مقارنة بعام 2005، وهو ما يمثل ضعف التزامها السابق. وفي الواقع، كانت هذه العودة وهذا الالتزام محل ترحيب عالمي، خاصة أن الولايات المتحدة هي المصدر الأول للانبعاثات الكربونية، كما أنها الاقتصاد الأكبر في العالم، وتستطيع أن تقود العالم نحو تحقيق الالتزام السابق إقراره في مؤتمر كوبنهاجن بتقديم الدول المتقدمة 100 مليار دولار سنويا لمساعدة الدول النامية على تنفيذ التزاماتها لمواجهة التغير المناخي، والمنشود أن يحقق مؤتمر الأمم المتحدة المقرر عقده قبل نهاية 2021 في «جلاسجو»، باسكوتلاندا خريطة طريق لتنفيذ هذا الالتزام. وعلى غرار الوعد الذي أطلقه «بايدن» في قمة واشنطن، فقد تعهد الاتحاد الأوروبي بتخفيض لا يقل عن 55% لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول 2030، مقارنة بما كانت عليه في 1990. وتعهدت كندا بتخفيض من 40–45% بحلول 2030، مقارنة بما كانت عليه في 2005، وأعلنت اليابان تخفيضًا بنسبة 46% بحلول 2030، مقارنة بـ2013. وانضمام الصين وروسيا إلى هذه التعهدات يعني خلق توافق دولي عام في ظروف لم تعد تحتمل الخلاف، خاصة أنه مع عام 2016 الذي شهد قمة مراكش للمناخ، أصبح العالم أكثر سخونة، وأصبحت درجة حرارة الأرض في طريقها إلى الارتفاع بأكثر من درجتين، والتي تعد نقطة تحول لا رجعة فيها تطلق العنان لفيضانات وموجات جفاف وعواصف مدمرة. وبحسب «وكالة الطاقة الدولية»، يحتاج الالتزام بتنفيذ بنود «اتفاقية باريس» إلى إنفاق 13.5 تريليون دولار حتى عام 2030، إلى جانب ضرورة توفر 3 تريليونات دولار أخرى للحد من الاحتباس الحراري عند مستوى درجتين. وفي اتفاقية باريس جاء النص بأنه يقع على عاتق الدول الغنية -وهي السبب في معظم الاحتباسات الحرارية - واجب دعم الدول الأقل تسببًا في الاحتباس الحراري والأكثر معاناة من آثاره، ولهذا سيكون نظام حساب تمويل التكيف مع التغيرات المناخية ضمن الموضوعات المدرجة في قمة «جلاسجو» المقبلة. ولم يقتصر الأمر على الطريقة التي تحسب بها الأموال التي تخصصها الدول الصناعية، بل أيضًا التزامها على الصعيد العالمي، ويشار إلى أنه حتى إذا تم الوفاء بالوعد لتقديم 100 مليار دولار سنويا، فقد لا يكون ذلك كافيًّا وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي قدر الكلفة السنوية لتدابير التكيف مع تغير المناخ في البلدان النامية بأنها قد تصل إلى 300 مليار دولار بحلول 2030. واستباقًا لمؤتمر «جلاسجو»، أطلق «البنك الدولي»، في يونيو 2021 خطة عمل جديدة بشأن تغير المناخ تهدف إلى تحقيق مستويات قياسية من التمويل المتعلق بالأنشطة اللازمة للحد من الانبعاثات في البلدان النامية، وتعزيز التكيف، ومواءمة التدفقات المالية مع أهداف اتفاقية باريس. تعمل هذه الخطة (2021 - 2025) على دمج الأهداف المناخية والإنمائية في الدول النامية، وفيها يتوجه التمويل إلى أكثر فرص التكيف والتخفيف تأثيرًا، ومساعدة أكبر الدول المسببة للانبعاثات في تسوية منحنى الانبعاث، ومساعدة مختلف البلدان على النجاح في التكيف إزاء تغير المناخ. يأتي هذا فيما طالبت المستشارة الألمانية «ميركل»، الدول الغنية بزيادة إسهاماتها في تمويل الجهود العالمية الرامية إلى مواجهة التغيرات المناخية، فيما تعهد الرئيس الأمريكي بايدن بمضاعفة ما تقدمه الولايات المتحدة لهذا التمويل. على العموم، إذا كان تمويل مواجهة تغيرات المناخ مازال محل جدل بين دول العالم خاصة في ضوء مسؤولية كل منها عن الاحتباس الحراري، فإنه مع ضغط الأزمات التي تنتج عن التغيرات المناخية فإنه من المتوقع أن يشهد مؤتمر «جلاسجو»، تحقيق توافق دولي حول هذه القضية، خاصة أن هذا التمويل سوف يفتح مجالاً واسعًا للاستثمار، ستتسابق فيه دول العالم، خاصة القوى الاقتصادية الكبرى لاقتناص الفرص التي تقدمها، فرص التحول إلى الاقتصاد الأخضر. وهكذا، خلق التوحد العالمي في مواجهة التغير المناخي حالة من التعاون المستمر، وهو ما عجزت عنه السياسة، يرجى أن تطول وتصمد في محاولات السياسة جر العالم إلى صراعات من نوع جديد.
مشاركة :