لم تقتنع أمريكا بخريطة سايكس بيكو التي رسمت من قبل بريطانيا وفرنسا عام 1916 وتخلص الأوروبيون من اليهود، وجعلوا فلسطين مكب نفايات لهم، اعتبرت أمريكا أن هذه مخلفات الاستعمار الأوروبي، غير ملزمة في الحفاظ عليها عدا الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، الذي جعل أمريكا أسيرة هذه المعضلة، وبسبب الأمن الإسرائيلي خسرت العرب، وهو ما يعد نجاحاً للأوروبيين في تكبيل المارد الكابوي من أجل أن يكون في حالة مستمرة في الاستعانة بالأوروبيين في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً وأن بريطانيا وفرنسا هما من رسما تلك الخريطة، ويعرفان أسرار المنطقة. تدرك الولايات المتحدة أن الأوروبيين لم يكونوا خلال فترة استعمارهم للمنطقة من أنهم في نزهة رومانسية أو كما يدعون أنهم في نزهة من أجل تحويل تلك المناطق إلى مناطق حضرية، وتدرك أيضاً أمريكا أن الأوروبيين يهتمون بالتفاصيل ولا يسلمون بالحقائق التاريخية، وبشكل خاص فرنسا، قد تكون بريطانيا أكثر حذراً من فرنسا، لكن تتميز بريطانيا عادة أنها ما تنسحب من المناطق التي استعمرتها إلا وتترك مشكلات صعبة وحلولها أصعب، وهي كثيرة مثال تسليم الأحواز لإيران، حتى لا يصبح العرب يطلون على الجانب الشرقي من الخليج العربي. بل جزأت الجانب الغربي من الخليج العربي بين مشيخات، ولولا أن الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة سارع إلى انتزاع الأحساء من الدولة العثمانية اعتبرته بريطانيا أمراً واقعاً، لكنها وقفت حائلاً أمام توسع الدولة السعودية الثالثة، وكذلك زرعت دولة اليهود في فلسطين، أي جعلت شرق أوسط ملتهباً وقابلاً للانفجار، فيما كانت فرنسا تفضل أن تكون مدغشغر هي الوطن البديل لليهود بعيداً عن أوروبا، هذا هو الفرق بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ولكنها في الخبث سواء. فحديث الأوروبيين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ليس صحيحاً، فيما هم همجيون أثناء الاستعمار، ففرنسا لن تغادر بلاداً حتى تثخن جراحاً في البلد الذي تستعمره، مثال ذلك الجزائر، فالاستعمار لم يكن لديه لياقات أو أدب، فعندما يحدثوننا عن حقوق الإنسان، فهم الأبعد عن حقوق الإنسان، وما يزالون حتى لا يصدقهم بعض السذج لأنهم لا يزالون يعتبرون منطقة الشرق الأوسط منطقة مستباحة لهم، ولكن بأساليب استعمارية مختلفة. بالطبع لن تستطيع أمريكا القيام بمفردها في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق رؤيتها إلا بالاستعانة بالأوروبيين، فعندما أرادت إحياء الصراع المذهبي التاريخي ما بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، بالطبع قرأت التاريخ ووجدت أنه لم تتمكن الدولة العثمانية من استكمال ضم أوروبا بعد وصولها فيينا، فكانت الدولة الصفوية تنشط بدعم البرتغاليين في محاربة الدولة العثمانية، بسبب مشاغلة الدولة الصفوية لم تتمكن الدولة العثمانية من استكمال الاستيلاء على أوروبا. فتم نقل هذا الصراع بين إيران والسعودية فاستعانت أمريكا بفرنسا في تحقيق هذا الصراع، فتم نقل الخميني من فرنسا إلى طهران، رغم أن شاه إيران كان ينفذ الأجندات الأمريكية، وهو شرطي المنطقة في الخليج، وبالفعل بدأت مرحلة صراع مذهبي في المنطقة، ودخول الخميني في صراع مرير مع العراق، استمر ثماني سنوات حتى توقف عام 1988، ثم احتلال صدام حسين الكويت عام 1990 تلاه احتلال أمريكا العراق 2003، رغم معارضة أوروبا هذه المرة، ما جعل أمريكا تسلم العراق سريعاً لإيران لتلافي هذا الخطأ. بدأت مرحلة جديدة بمعاهدة اسطنبول التي عقدت في يونيو 2004 لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط تتوافق مع رغبات الشرق الأوسط التي تعززها الأحداث والصراعات التي تمر بها المنطقة، بهدف تشويه صورة الإسلام، وتقديم الدعم للتنظيمات المتطرفة في المنطقة، وسبق أن عرضت الولايات المتحدة هذا المشروع على رئيس الوزراء التركي أربيكان لكنه رفض هذا المشروع، فاتجهت الولايات المتحدة إلى تشكيل حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان وقبل تولي المشروع. تزامن مع تشكيل مبادرة اسطنبول للتعاون تشكيل اتحاد العلماء في 7 نوفمبر 2004 لدعم هذه المبادرة، وإعطائها شرعية، وسبق أن حذر فتح الله غولن في عام 2004 بعد عقد المبادرة في اسطنبول في 16 نوفمبر 2004 من أن هدفها انجرار تركيا خلف مشاريع الآخرين، وهو ما جعل أردوغان يعادي فتح الله الذي حذر تركيا من مبادرة اسطنبول للشرق الأوسط الكبير. بالنسبة للأوروبيين فإنهم بعد الحرب الباردة يبحثون داخل الناتو عن إعادة تعريف الأمن الأوروبي داخل حلف الناتو، وكيفية التعامل مع التهديدات الداخلية على أمن غرب أوروبا المحتملة القادمة من دول الجوار كأوروبا الشرقية وجنوب المتوسط كما حدث في البلقان. مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تتبناه الولايات المتحدة ظاهره تحقيق الحريات العامة، وحرية المرأة، وتطوير التعليم في هذه المنطقة، وبالطبع كلفت تركيا بتولي هذا المشروع بقيادة أردوغان، تكررت دعوات انضمام السعودية إلى هذه المبادرة، لكن السعودية وسلطنة عمان رفضتا الانضمام إلى هذه المبادرة، فيما انضمت الكويت والبحرين وقطر ودولة الإمارات، وتوالت الضغوط على السعودية من قبل الناتو عندما ذكر أمين الناتو أنديرس راسمون في 2011 من أن أمننا متداخل، وأضاف ثابتة لا يمكن لجهة واحدة اليوم أن تواجه بمفردها هذه التحديات ولأن التحديات متعددة فالرد عليها يجب أن يكون متعددا، لكن السعودية لم تجد في هذه المبادرة أي مواجهة للنفوذ الإيراني في المنطقة، وكذلك السعودية وسلطنة عمان والكويت رفضت هذه الدول الانضمام لمبادرة السلام الإبراهيمية التي تولاها ترمب. وتم الترويج فيما يسمى بثورات الربيع العربي في 2011 من أنها ترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها كانت فرصة لتيار حزب العدالة والتنمية التركي الذي أنشأته الولايات المتحدة وأفرعه العالمية من القفز على السلطة في مصر وتونس وليبيا، وحاولت السعودية التي دعمت الجيش المصري ونجحت الثورة الشعبية في استعادة الحكم من حزب العدالة والتنمية فرع مصر، وحاولت السعودية التزام الحياد مع تركيا للتعاون في سوريا، وبالفعل شاركت تركيا في عاصفة الحزم في اليمن، لكن حاول الإخوان استمالة السعودية والاصطفاف بجانب تركيا ضد مصر لكنها رفضت السعودية هذا الاصطفاف. نجحت السعودية ومصر ودولة الإمارات في محاصرة حزب العدالة والتنمية الذي أنشأته الولايات المتحدة وأرادت من خلاله تنفيذ مشروع الشرق الأوسط، وتم محاصرة تركيا في ليبيا وفي شرق البحر الأبيض المتوسط والتقت المصالح الغربية الأمريكية مع المصالح المصرية العربية، وتم محاصرة تركيا في شرق المتوسط وإخراجها من منتدى الغاز شرق المتوسط، فيما روسيا موجودة في الساحل السوري، وتم ضرب قاعدة الوطية في ليبيا مع وضع خط أحمر لتركيا في السرت والجفرة. تعد تونس ضمن دائرة الأمن الإقليمي المصري، وبسبب اعتبار النهضة التونسي فرع من فروع حزب العدالة والتنمية التركي، زار راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي تركيا في 2020 دون علم الرئاسة، وهو ما تسبب في المطالبة بمسآلة الغنوشي من قبل البرلمان، لكن الطلب رفض بسبب أن أغلب أعضاء البرلمان ينتمون للنهضة أو متحالفين معه سياسياً، وكذلك أقدم راشد الغنوشي على تهنئته فايز السراج على استعادة قاعدة الوطية، وهو ما يمثل اعتداء على حقوق الرئيس التونسي، وفي نفس الوقت يدمر حياد تونس، وزج تونس في النزاع الليبي. ظن الإخوان أن انتخاب قيس سعيد أسورة بيدهم، وستستمر تونس حلقة في مزاد المشاريع الإقليمية، وحذر قيس سعيد النهضة من التلاعب بأمن تونس، لكن الإخوان ظنوا أن ثورتهم أبدية ومقدسة، ولا يمكن لأحد أن ينتزعها منهم في تونس، باعتبار أن تونس مصدر الثورات والربيع العربي، لكن عشر سنوات والإخوان يتحكمون بالمشهد التونسي، ولم يحصد الشعب التونسي سوى الإرهاب والبطالة والانهيار الصحي. تحرك الشعب، واستجاب الرئيس المنتخب، متسلحاً بالدستور وبالمادة 80 وطالب بتجميد البرلمان، ولم يقيله تماشياً مع الدستور، لكن المجلس العالمي لاتحاد علماء المسلمين التابع لجماعة الإخوان المسلمين استيقظ وأصدر قراراً استنكارياً يتهم ما قام به الرئيس الشرعي المنتخب قيس سعيد يعد انقلاباً على الشرعية، وبدأت جماعة الإخوان المسلمين يصورون أن ما حدث في تونس تدمير للتجربة الديمقراطية، وأنه مشهد مميت نتيجة السقوط المدوي لجماعة الإخوان في تونس ولحركة النهضة كما حدث في مصر. ** ** - أستاذ بجامعة أم القرى بمكة
مشاركة :