القاهرة الخليج: أيها الملاك المفعم بالطيبة، هل تعرف الكراهية، والقبضات المتشنجة في الظلام، ودموع المرارة حين يعلن الانتقام نداءه الجهنمي، ويجعل من نفسه قائداً لقوانا؟. هذا المقطع من ديوان أزهار الشر لبودلير، يتصدر الغلاف الأخير لكتاب ماري فرانس هازبروك عن الثأر الذي ترجمه إلى العربية د. أيمن عبد الهادي، وأصدرته دار التنوير للنشر والتوزيع. الثأر في أقرب معانيه يرادف العنف القاتل والوحشية التي غالباً ما نراها في السينما، ولكن نادراً ما نختبرها في الواقع اليومي، بخلاف صفحة الحوادث في الجرائد، وعبر نماذج من التراث الإنساني، ومن الفلسفة والسينما والأدب. يقدم هذا الكتاب فكرة الثأر وحسب المؤلف من يعتدي على خصمه يتجاسر، لأنه لا يخافه، وهذا معناه أن شعوراً بالتفوق يتملكه، ولو لم يستجب المعتدي عليه، لاعتبر ضعيفاً عند كل من يفترض أن يحترمه، وبالتالي يصبح الثأر ليس مجرد حق، إنما هو ثأر لشرفه، وعلى ثأره أن يفزع أولئك الذين سيحاولون بدورهم الاعتداء عليه. ويوضح المؤلف أنه لو كان الثأر مثل وجبة باردة لكان ثأراً متحضراً، يختزل في أفعال هينة، وليس فيه عنف مبالغ فيه، لكن الثأر ينتج عن مشاعر يؤججها الغضب، وتخزنها الضغينة التي تطلق الكراهية والحقد، حتى يتحول الثأر إلى هاجس تدمير الآخر، أنه كراهية لا تختبئ، فطالب الثأر يحرص على أن يكشف عمله في اللحظة التي يضرب فيها، كأنه بهذه الطريقة يريد أن يقول إنني الأقوى، يظن أنه ينفذ العدالة، وهو بذلك يقيم عدالة يقررها بنفسه، إن عدالة الثأر لا تقبل المثل، إنها تسعى إلى التدمير، تدمير الخصم، وحتى تدمير الذات أيضاً. يرى المؤلف أننا نحلم بالثأر حين يضربنا الغضب، ونتخيل سيناريوهات خالية من العيوب، والأمور كلها تجرى كما نريد، لكن تبدأ المصاعب مع اختبار الواقع، حين نقرر التحرك إلى الفعل، كيف يمكننا الاستمرار بهذا الشكل الملح في الثأر من دون أن ننتقل إلى مرحلة الفعل، أو بالأحرى بهذا الشكل من اليأس بحيث لا نكون مستعدين للقيام به لكي نبرأ من الضغينة؟، هل يتعين علينا التخلي عن الثأر؟، هل يمكننا ذلك حين يولد العدول عن الثأر ذاته هذا الشعور بالضغينة؟ يوضح المؤلف إن هاملت في رائعة شكسبير يماطل ولا يتوقف عن لوم نفسه، على ثأره شديد البطء يلوح له طيف أبيه من جديد، في الوقت المحدد، كي يحفز عزمه شديد الوهن فمثل تجسيداً للخزي الذي يشعر به، لأنه لم يتصرف بعد. هل هناك علاقة بين الثأر والشفقة؟ استناداً إلى رواية الكونت دو مونت كريستو، فإن المؤلف يرى أنه لكي يحدث هذا لابد أن يرى من يقوم بالتآمر والكوارث التي أحدثها، والتي أحياناً يتعذر إصلاحها حتى يقرر فيما بعد الكف عن ثأره، لكن غالباً بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الآخر قد عانى كثيراً. هل هذا يعني أن الثأر دائماً ما يكون قد ذهب بعيداً جداً مهما كانت النقطة التي توقف عندها، وأنه هو في حد ذاته ضرب من المغالاة وتجاوز الحد، كما يقترح بول ريكور؟ لأجل العثور على إجابة لابد من دراسة الغضب القابع في قلب الثأر. إن الغضب بالضرورة لا يقود إلى الرغبة في الثأر، يمكن أن يتملكنا الانفعال والغضب السريع لأتفه الأسباب، وأن ينقلب مزاجنا سوداوياً، على سبيل المثال قام أفلاطون وروسو وأوغسطين، بتوصيف غضب الأطفال الصغار الذين يضربون الأرض، ويزعقون، ويبكون بلا توقف، ويبذلون في ذلك طاقة، لا يمكن تصورها، لم يسئ إليهم أحد، لكنهم يسخطون على ضعفهم وعجزهم. أن تبدأ في الغضب ولا يخضع للإرادة، يزداد هذا الشعور داخلنا بشدة، كما لو أن حرارة مفاجئة لفحتنا، فالشعور بالغضب الذي هو الرغبة في الثأر لإهانة ما يخص الإنسان العاقل. وهنا يقول القديس توما الاكويني إن العقل هو الذي يعين لنا ما تسببه الإهانة من أذى ويسمح لنا بتقدير العقاب المستحق عن وجه تلك الإهانة. واستناداً إلى وجهة النظر يمكن القول مع أرسطو إن الغضب يستجيب على نحو ما إلى العقل. لكن حين نغضب وتتأجج فينا الرغبة في الثأر، هل نظل نستمع إلى العقل؟، يمدد أرسطو الظروف التي تسمح بالتخلي عن الغضب والتحلي بالهدوء من جديد، منها أن من أساء إلينا لم يكن يقصد الإساءة، أو أنه اعتذر وبكل تواضع عن الإهانة، أو أنه لا يزدرينا بالفعل. في النهاية يتعلق الأمر ببعض الظروف الخارجة عن إرادة الإنسان الغاضب، ليس العقل هو من يوقف الغضب، إنما الأسباب التي أدت إلى الغضب هي التي تتلاشى، وأحياناً لا يكون مما سبق تأثير.
مشاركة :