أحداث متسارعة شهدتها أفغانستان منذ إعلان انسحاب القوات الغربية منها. الجميع يعرف التفاصيل أولاً بأول من خلال التغطية الإعلامية لكافة وسائل الإعلام العالمية على مدار الساعة، إلا أن جلّ هذا المقال هو تفسير قرار الانسحاب الغربي عموماً وحلف الناتو على نحو خاص، وهل بالفعل يمكن اعتباره قراراً مفاجئًا؟ ومحاولة تفسير ذلك القرار ضمن استراتيجية تدخل الناتو في الصراعات والانسحاب منها. القصة معروفة للجميع.. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 واجه حلف شمال الأطلسي «الناتو» انتقاداً شديداً من جانب الولايات المتحدة، لعدم تقديم الحلف الدعم الفوري لها لتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف والتي تنص على أن الاعتداء على دولة من دول الحلف يعد اعتداءً على دول الحلف ككل ما يستوجب الرد الجماعي، ففي أول قمة للحلف بعد تلك الأحداث قال دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك «إن الحلف إما أن يتحول وإما أن يموت»، كما قال رامسفيلد: «إن المهمة هي التي تحدد طبيعة التحالف وليس العكس». وقد كان الامتعاض الأمريكي واضحاً من خلال رسالة من الولايات المتحدة لنظرائها في الحلف، وقد جاءت على لسان بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي خلال اجتماع للحلف في أكتوبر 2001 إذ قال: «لا تتصلوا بنا بل نحن الذين سنتصل بكم»، وقد تمثلت معضلة الحلف تجاه التدخل في أفغانستان في أمرين، الأول: أن الاعتداء لم يكن من جانب دولة، ولكن جماعة دون الدولة، والثاني: أنها كانت المرة الأولى للحلف للتدخل عسكرياً خارج الأراضي الأوروبية، ولم تعلن دولة أو منظمة أخرى الرغبة في الاضطلاع بالمهمة، ومن ثم فقد أعلن الحلف التدخل ضمن ما سمي«بعثة إيساف» وفقاً لقرارات أممية ومهام، منها إعادة الإعمار وتدريب قوات الأمن الأفغانية. كانت أفغانستان إحدى الأزمات التي حظيت باهتمام مناقشات داخل المؤسسات الأكاديمية التابعة لحلف الناتو، وكانت نتيجة تلك المناقشات أن الحلف لا يتدخل في الأزمات إلا بعد توافر ثلاثة شروط، الأول: وجود قرارات أممية حتى لا تثار مسألة الفجوة بين الشرعية والمشروعية، والثاني: وجود إجماع بين دول الحلف الـ29 على أن أزمة ما تمثل تهديداً لمصالح الحلف، والثالث: طلب الدولة المعنية، ولا يعني ذلك أن تدخلات الحلف سارت على وتيرة واحدة، فلكل حالة خصوصيتها، إلا أن الأمر اللافت هو تأكيد كافة مسؤولي الحلف أن الناتو لا يتدخل في منطقة ما ليبقى للأبد، فلا بد قبل دخول الحلف أن تكون لديه استراتيجية للخروج الآمن، وربما ذلك ما حدث في حالة أفغانستان بالتوافق بين أعضاء الحلف على ضرورة الانسحاب في هذا التوقيت، ومن ثم فإن ذلك الأمر يعيد تأكيد أمر مهم، وهو أنه لا بد من قراءة استراتيجيات الأمن القومي بشكل دقيق سواء بالنسبة للدول الكبرى أو المنظمات على غرار حلف الناتو، فهي تمتد لسنوات، وربما تختلف آليات تنفيذها، ولكن بها ثوابت لا ترتبط بتوجهات نخبة معينة؛ لارتباطها على نحو وثيق بالمصلحة الوطنية لتلك الدول، بدليل أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قرار اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب وفق اتفاق مع حركة طالبان بأن يكون في نهاية مايو 2021 إلا أن الرئيس جو بايدن أرجأ الموعد بعد فوزه في الانتخابات من دون إلغاء قرار الإدارة الأمريكية السابقة. ومع أهمية ما سبق فإن انسحاب الناتو من أفغانستان وما ترتب على ذلك من نتائج قد أثار الجدل حول ثلاث قضايا مهمة، القضية الأولى: العلاقة بين الحلف والولايات المتحدة، وخاصة أنها تسهم بحوالي 75% من الميزانية العسكرية للحلف، بمعنى آخر مدى قدرة الحلف على العمل بشكل شبه مستقل عن الدعم الأمريكي، ففي حالة أفغانستان على سبيل المثال كان الجهد العسكري لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا هو الأبرز في البداية، وكذلك خلال التدخل الأطلسي في ليبيا عام 2011 كان الدعم الجوي العسكري الأمريكي خلال الأيام الأولى من ذلك التدخل هو من مهد السبيل لتدخل الحلف، أما القضية الثانية فهي تأثير أحداث أفغانستان على شراكات الحلف في مناطق أخرى في العالم، ليس من منظور التدخل ولكن بناء القدرات لأنه كان من مهام الحلف ضمن عملية إيساف بناء قدرات قوات الأمن الأفغانية، إلا أنه منذ عام 2002 حتى عام 2021 لم تسفر تلك الجهود والبرامج عن تحقيق الهدف المنشود بما يثير التساؤل حول معوقات تحقيق ذلك.. هل بسبب التمويل أم طبيعة البرامج ذاتها؟ وهي قضية تحتاج إلى تحليل رصين، أما القضية الثالثة فهي دور الحلف في العملية السياسية خلال الصراعات، بمعنى آخر: هل اقتصر دور الحلف على العمليات الإنسانية ودعم قدرات قوات الأمن أم إنه لعب دوراً في مسألة المصالحة الوطنية؟ وتلك قضية مهمة للغاية في الحالة الأفغانية من أجل عمل تقييم استراتيجي شامل لتجربة الحلف في أفغانستان، ويتطلب الأمر الاعتماد على مراجع ومصادر موثوقة بعيداً عن المصادر التي تتناول سياسات الحلف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وبغضّ النظر عما ستؤول إليه الأحداث في أفغانستان، فإنها في تصوري حالة تثير تساؤلات عديدة حول قضايا استراتيجية بالغة الأهمية، وهي تأثير الصراعات الإقليمية على ميزان القوى العالمي واستراتيجيات الدول الكبرى، بمعنى آخر: هل ستكون هناك مسارات دولية مستقبلية محددة بشأن التعامل مع الصراعات الإقليمية؟ أم إن تلك الصراعات ومآلاتها هي ما سوف يحدد طبيعة التحالفات والعلاقة بين أقطاب النظام العالمي سواء أكانت دولاً أم منظمات على غرار حلف الناتو؟ ويقود ذلك إلى التساؤل الثاني ومفاده: أين ينتهي الدور الأمريكي تجاه الصراعات الإقليمية؟ ومتى يبدأ دور حلف الناتو في ظل الإسهام الكبير للولايات المتحدة في ميزانية الحلف؟ فضلاً عن تأثير الصراعات الممتدة داخل الدول التي لديها حدود متعددة مع الجيران على الأمن الإقليمي عموماً وخاصة مسألة النازحين، وهو ما يفرض أعباءً إضافية على المنظمة الأممية التي لديها مهام مماثلة في مناطق عديدة في العالم. وفي تصوري أن القضية الكبرى التي تثار الآن هي العلاقة بين الأمن الإقليمي والأمن العالمي.. هل يمكن القول إننا سنكون إزاء انحسار دولي عن مناطق الصراعات؟ وهل سيسهم ذلك في تهدئة الصراعات أم يؤدي إلى مزيد من التأجيج؟ وهل يجوز صياغة تصورات عامة لكافة الصراعات يمكن من خلالها الحكم عليها بشكل صحيح أم إنه لكل حالة خصوصيتها؟ في اعتقادي أن حالات تدخل الحلف في الصراعات تحتاج إلى تقييم ومقارنات لدراسة أسباب ونتائج التدخل، وكذلك فكرة الخروج الآمن التي كانت حالة أفغانستان تطبيقاً لها. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :