في ظل الأزمات التي تضرب عالمنا من الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة نلاحظ كيف تتسع حجم الفجوة بين من يملك وبين من لا يملك، لتكون الشريحة الاجتماعية الأكثر تضررا هي شريحة الطبقة الشعبية من الكادحين والفقراء والعمال والتي هي في أدنى درجات السلم الاجتماعي والاقتصادي؛ وفي مثل هذه الأزمات نراهم دائما يكونون على الخطوط الأمامية سواء في الحروب أو الكوارث والأوبئة؛ إذ يفقد الملايين منهم وظائفهم ويخسرون أعمالهم المتواضعة، ومع كل كارثة تتفشى البطالة في صفوفهم ويفقدون أعمالهم ووظائفهم، الأمر الذي يترتب عليه مزيد من الأعباء والمعاناة يضاف على كاهلهم؛ لأن مدخراتهم ستتعرض لا محالة للاستنزاف بتراجع إيراداتهم الشهرية مع غلاء المعيشة؛ ليعيشوا الفقر المدقع بما يرفع معدلات الفقر والبطالة حول العالم؛ فتتسع بذلك الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. وهذا الكلام لا نطلقه جزافا؛ ففي تقرير الاقتصاد العالمي للقادة السياسيين والماليين الذي عقد مطلع العام الجاري 2021 في (دافوس بسويسرا) جاء ان الوباء زاد من الانقسام وعدم المساواة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء؛ وان عدد الذي يعيشون تحت مستوى الفقر بلغ حدود (500 مليون إنسان) وان الوباء أضر بالفقراء إلى درجة كبيرة إذ قد يصل عددهم إلى (6٠0 مليون إنسان)، لذلك فإن قصة تضخم وزيادة ثروة الأغنياء معروفة في أوقات الأزمات بما يقابل تفاقم أوضاع الفقراء وزيادة أعدادهم وزيادة فقرهم فقرا.. لنستشف مما سبق التداعيات التي افرزها وباء (كورونا) على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ وكيف اتسعت الهوة والفوارق بين الطبقات الاجتماعية، رغم أن كل طبقات المجتمع لم تسلم من وباء (كورونا)، ولكن نظرا إلى نمط الحياة الذي يعيشه الأثرياء والأغنياء في الترف والبذخ والرفاهية بقوا في مأمن صحي ومالي واقتصادي ولم يفقدوا مواردهم ودخولهم وأرزاقهم؛ رغم أن بعض أصحاب المصالح والشركات والمعامل والمصانع والشركات أصيبوا بأضرار طفيفة؛ وإصاباتهم هذه لا تقاس بحجم الكارثة التي أصابت أبناء الطبقات الكادحة والفقراء وعائلاتهم؛ لتتعالى صرخاتهم مستغيثين من شدة غلاء المعيشية وارتفاع أسعار السلع في الأسواق والضائقة المالية التي يمرون بها نتيجة فقدانهم الأعمال والوظائف وتراجع مدخولاتهم وأرزاقهم وعدم وجود ضمانات اجتماعية تحميهم في وقت الأزمات والكوارث؛ لتبقى هذه الطبقة تعيش في مستوى اجتماعي بائس بعد أن ضاقت بهم كل سبل العيش الكريم . ومن هنا نلاحظ ان ترك الأوضاع الاجتماعية على ما هي عليه من دون تدخل الحكومات في مثل هكذا كوارث لدعم الضمان الاجتماعي ليتم تحقيق نوع من التوازن الاجتماعي يضمن دخلا ماليا يحفظ كرامة الناس في أوطانهم لكي لا تتعمق الفوارق الاجتماعية أكثر وأكثر بتصاعد ثروة الأغنياء بينما ينحدر مستوى الطبقات الكادحة من سيئ إلى أسوأ ومن فقر إلى فقر أتعس. إن كارثة وباء (كورونا) التي ضربت كل مجتمعات الأرض كشفت حجم التمايز الطبقي في المجتمعات وحجم المخلفات المرضية التي يفرزها هذا التمايز ويكشف عن بنيته بأدق التفاصيل من : أولا: عدم تكافؤ الفرص ثانيا: الحرمان ثالثا: القهر النفسي والسلوكي ومن هذه الحقائق نستشف أن غالبية الطبقات الكادحة في عموم المجتمعات في كوكبنا إما تعيش في حجر صغيرة سواء في القرى أو في الأرياف أو في المدن أو في شقق العمارات السكنية مع كثرة أعداد أفراد العائلة الواحدة؛ فتكون العمارة مكتظة بساكنيها ما يصعب في زمن الوباء التباعد الجسدي بين أفراد الأسرة الواحدة؛ وهو أمر لا يمكن تأمينه بين الفقراء بعكس الأثرياء إذ لكل فرد غرفته وسريره الخاص؛ ولهذا نجد حجم الحرمان الذي تعيشه الطبقة الكادحة بسبب عدم إمكانية توفير كل المستلزمات التي يحتاج إليها أفراد الأسرة من الألعاب الالكترونية وكومبيوتر شخصي وهواتف ذكية يمنعهم من مواصلة تعليمهم عن بعد؛ بعكس طبقة الأثرياء إذ يتمتع أطفالهم بامتيازات خاصة عبر تطبيقات الكترونية متطورة في التعليم فينجزون أعمالهم ودراساتهم بانتظام. تجسد هذه الوقائع حجم الخلل الاجتماعي الذي يعتبر اعتداء صريحا على مبدأ (تكافؤ الفرص) ليس في التعليم فحسب بل في شؤون الحياة كلها؛ فعدم المساواة في فرص العمل.. والتعليم.. والعلاج.. والإعفاء الضريبي، في ظل هذه الأزمة تظهر على السطح تأثيرات بالغة الخطورة على مستقبل الطبقة الكادحة وأبنائها على المدى الطويل، إذ إن التفاوت في الحصول على فرص العمل.. والتعليم.. والصحة.. يقود إلى تقرير مصير حياة الأسر والأفراد بشكل غير متكافئ، على كل مستويات الحياة. ونتيجة لعدم وجود استراتيجية واضحة المعالم والأسس العلمية لأغلب دول العالم إزاء انتشار هذه الجائحة تسير عليها وفق خطط طموحة لتجنب التبعات الاجتماعية والاقتصادية على مستقبل البشرية تجنبهم من الإحباط النفسي والسلوك المرتبك مع ما يخلفه من تبعات اجتماعية طويلة المدى؛ هي أعمق واشد تأثيرا من التبعات الاقتصادية سواء في المجتمعات الشرقية أو الغربية؛ وذلك نتيجة عدم استقرار الأوضاع على كل المستويات السياسية.. والاقتصادية.. والاجتماعية. سيكون قطاع كبير من الناس لا محالة عرضة للإحباط.. والقلق.. والذعر.. والارتباك.. والتشويش؛ التي ستسيطر على سلوكه وتصرفاته بعد أن تأخذ الظروف الاجتماعية القاهرة مأخذها من الفرد بعد تفشي البطالة وفقدان العمل والوظائف وعسر المعيشة؛ لتتفاقم أوضاعه أكثر وأكثر حين تعم في المدن مظاهر الإغلاق العام.. وحظر التجوال.. والحجر المنزلي، ليصاب بمزيد من الإحباط والاكتئاب ونوبات الهلع؛ فتزداد في المجتمعات أعراض المرض النفسي؛ لتثبت هذه الأزمة مدى هشاشة (النظام الدولي) الذي هيمنت عليه (الرأسمالية) التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية والآيل إلى السقوط والتغيير لا محالة؛ بعد أن أثبتت هذه الجائحة فشل وزيف الحجج التي سيقت لنظام العولمة التي لم تخدم إلا (النظام الرأسمالي) المستغل على حساب الطبقات الكادحة والفقراء في شتى أنحاء العالم وليس فحسب في دول العالم الثالث. فجلّ هذه التغييرات الحاصلة اليوم على أرض الواقع ونشهدها بأمهات أعيينا أحدثها وباء (كورونا)؛ لنرى كيف تصاعد الصراع بين القوى الكبرى في العالم لقيادته، في وقت نجد فيه هذه القوى تنغلق على نفسها؛ وان هذا الصراع قد جاء نتيجة تفاوت الضرر الذي أحدثته الجائحة باقتصادياتها وعدم قدرة مجتمعات هذه القوى على تحمل تبعات الأضرار التي خلفتها جائحة (كورونا).. ومن هذه الحقائق يقال اليوم إن من يخرج منتصرا من تبعات جائحة (كورونا) هو الذي سيقود (النظام الدولي) وسيعيد التحالفات والتكتلات السياسية والاقتصادية بحسب رؤيته وطموحاته في التحكم في مقدرات الآخرين . ولعل المتغيرات التي ستحصل -لا محالة- في (النظام الدولي) ستعيد صياغة (النظام الدولي) من جديد بشكل أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية لتواكب تطورات الحاصلة في البنية الاجتماعية: أولا.. بعد أن تكون هذه المرحلة؛ مرحلة انكماش الطموح الاستعماري للدول الكبرى لتغير سياسة أطماعها في استغلال ثروات الآخرين؛ لأنه في هذه المرحلة من الصعب تحقيق مثل هذه المآرب، بعد أن اخفق (النظام الرأسمالي) الذي غلف سياسته بالأيديولوجيا (الليبرالية) و(النيوليبرالية) لفرض سياسات قمعية إزاء مقدرات الدول الأخرى؛ ليكون من خلال هذه المفاهيم وعبر المؤسسات الدولية مثل (صندوق النقد الدولي) و(البنك الدولي) و(منظمة التجارة العالمية) مهمينا على مقدرات العالم بإشراف (النظام الرأسمالي) الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية . وثانيا.. الدول العظمى اليوم بحاجة إلى تعاون اقتصادي لتجاوز مرحلة الكساد التي يمر بها النظام الاقتصادي في كل بلدان العالم، لان المجتمعات البشرية ناضلت نضالا مستميتا من اجل انتزاع حقوقها من الأنظمة الشمولية والمستبدة في كل أنحاء العالم، فهي اليوم لن تتنازل عن حقوقها الاجتماعية والاقتصادية بعد أن كسبتها خلال مسيرتها النضالية الطويلة؛ ولذلك تقف في وجه السلطات والأنظمة الدولية التي تستغل ظروف جائحة (كورونا) للالتفاف على حقوقها المكتسبة، ولهذا فهي تناضل من اجل إزالة الفوارق الاجتماعية وتحقيق العدل الاجتماعي في كل مؤسسات الدول؛ وألا تتغاضى عن الجهات التي استغلت ظروف الجائحة لتحقيق أرباح هائلة على حساب الطبقات الكادحة كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية . فإذا كانت الشركات (الرأسمالية) تكرس أنشطتها لاستغلال الإنسان من اجل الربح السريع بعد أن أصبحت إرادتها تتحكم في مقدرات العالم اجمع بعد انفكاك (الاتحاد السوفيتي) وانكماش (الشيوعية) ليصبح العالم سوقا حرا للطبقة (الرأسمالية) فحسب على حساب الإنسانية والنظام الاجتماعي؛ بعد أن استغلت (الرأسمالية) وعي الطبقات الشعبية والكادحة برفع شعارات مزيفة باعتبار (الرأسمالية مساوية للديمقراطية)؛ وعبر هذه الطبقات الكادحة عززت ورفعت حرية التعبير.. والصحافة.. والتجمع.. والعمل النقابي.. وتكوين الجمعيات.. والحق في الإضراب والاحتجاج.. والمساواة أمام القانون، ولكن مع وجود هذه المعايير في الدول (الرأسمالية)، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر أي هجوم على حرية المال والرأسماليين الكبار هو هجوما على (الديمقراطية الرأسمالية)؛ فتمارس أبشع أنواع العنف والاستبداد لقمع مثل هكذا توجهات مجتمعية وآراء واحتجاجات ضد (الطبقة الرأسمالية)، ومن خلال هذه الفلسفة تدير (الرأسمالية) شؤون الحياة وتمارس كل ما لا يخطر في البال للقضاء على أي تهديد يمس مصالحها (الرأسمالية) ومصالح الطبقات الارستقراطية من الأغنياء وأصحاب المصانع والشركات الاستثمارية العملاقة . لذلك فإن (الرأسمالية) تمثل إشكالية في حياة البشر، لكونها تعتبر الأوبئة في أوقات معينة ضرورية وحتمية لإحداث استقرار الاقتصاد ودفعه إلى الأمام بإنتاجية أكثر لإدامة رأس مال المستثمرين؛ وإذ اقتضى الحال ذلك؛ تظهر نظرية انه يجب صناعة الفيروسات لنشر الأوبئة في المجتمعات من اجل نمو أرباح الرأسمالية. ومن هنا فإن انتشار وباء (كورونا) في أيامنا هذه لا يستبعد صناعته في المختبرات العلمية للقوى (الرأسمالية) لمثل هكذا أهداف؛ لان منطلقاتهم تذهب نحو تبني فكر (نشر الأوبئة والأمراض) كضرورة لجعل الاقتصاديات (الرأسمالية) أكثر إنتاجية، ومن خلال تفشي جائحة (كورونا) في العالم كشف الوباء الوجه الحقيقي لـ(الرأسمالية)؛ بعد أن وضع في ميزان التقييم والنقد الكيفية التي أديرت بها هذه الأزمة الوبائية إذ ظهر الإهمال.. وعدم الاهتمام.. وعدم تطويق الجائحة في مهدها.. وجعلوها تنتشر في كل أنحاء العالم؛ حتى فقدوا السيطرة عليها. { باحث وكاتب من فلسطين
مشاركة :