بعد مرور أكثر من عام أعلن أخيرا التوصل إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا، ولكن هذه اللقاحات ظل يحيطها الكثير من التساؤلات عن مدى نجاعتها والفترة التي توفرها للحصانة من الوباء وكيفية توزيعها؛ لتوجه إلى الدول (الرأسمالية) المنتجة للقاح انتقادات -لا أول لها ولا آخر- فتصبح مادة للصحافة والإعلام، والرأي العام اليومي يشغل العالم بأسره بعد أن استغلت (الطبقة الرأسمالية) هذه الأزمة لتجديد أنشطتها الاقتصادية ليحققوا أرباحا طائلة ومكاسب ضخمة، فقد استفادوا من الجائحة بشكل غير مسبوق إذ تذكر التقارير ان عدد أصحاب المليارات قد شهد زيادة غير مسبوقة في (الولايات المتحدة الأمريكية) و(الصين) حيث وصل مجموع الأثرياء في قائمة المليارديرات إلى ستمائة وستين شخصا، وقد اكتسبت الولايات المتحدة وحدها نحو ستين مليارديرا جديدا، كما استفاد من كارثة الوباء مؤسسات رأسمالية بأسماء معروفة مثل (جيف بيزوس) وطليقته (ماكينزي بيزوس) من (شركة أمازون) و(بيل جيتس) مؤسس شركة (مايكروسوفت) و(روكو كوميسو) المؤسس والرئيس والمدير التنفيذي لشركة (ميدياكوم للاتصالات) و(إيلون ماسك) المؤسس والمدير التنفيذي لشركة (تيسلا) للسيارات الكهربائية والمدير التنفيذي السابق في مايكروسوفت (ستيف بالمر) ومؤسس زووم (إريك يوان) ومؤسس فيسبوك (مارك زوكربيرج) وآخرون. وكل هذه الطفرة في تحقيق الأرباح التي تم تحقيقها من قبل الشركات والمؤسسات (الرأسمالية) والأشخاص من الطبقات الغنية والأثرياء جاءت على حساب تنمية ورعاية وحماية الطبقات الكادحة والعاملين والفقراء وعدم المساواة وعدم وجود مبادئ العدالة الاجتماعية في ظل وجود (الديمقراطية) التي تتبجح بها (الرأسمالية) ليل نهار كطريق للنمو الاجتماعي والحد من الفوارق الاجتماعية والطبقية؛ في الوقت الذي تفتح الباب على مصراعيه لقوى الإنتاج والثروة في المجتمعات الراسمالية والطبقة المحتكرة التي تعمل على تشريع قوانين تخدم مصالحها. وهنا يبرز في المجتمعات (الرأسمالية) حجم عدم المساواة والتباين الهائل في المال والموارد فيما بين (الطبقات الكادحة) و(الطبقات الرأسمالية) مع ما يرافق ذلك في المجتمع (الرأسمالي) من مظاهر الاستغلال والاضطهاد بحق الكادحين والفقراء؛ فتتعمق في مشاعرهم حالة الاغتراب اليومي نتيجة إحساسهم بالعزلة والتهميش والاستغلال والتي تتعمق في (المجتمعات الرأسمالية) وتؤدي إلى تصاعد نبرة توترات اجتماعية واقتصادية وسياسية لا حصر لها. ولهذا فان الصراع الطبقي بين الأثرياء والأغنياء وأصحاب النفوذ وبين الفقراء والكادحين والعمال الذين يعانون من تداعيات هذه الأوضاع القائمة في الدول (الرأسمالية) يسحق طموحاتهم ويستغلهم شر استغلال، لذلك فهم يناضلون لاسترداد حقوقهم والمطالبة بالمساواة. والملاحظ ان ما تقدمه هذه الطبقات من الأطباء وكوادر التمريض والمعلمين والأساتذة والقانونيين والعمال وأصحاب الحرف من خدمات مجتمعية وخاصة في أوقات الأزمات والكوارث كما يفعلون تجاه انتشار جائحة (كورونا) لا يقارن مع أفعال (الطبقات الرأسمالية) بقدر ما تمارسه هذه الطبقات الفوقية حيث تقوم بتسخير الطبقات الكادحة والفئات المعدومة لصالح مصالحهم واستغلالهم أبشع استغلال بعيدا عن تطلعات الكادحين والعمال الذين يقفون في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء بكل إمكانياتهم البسيطة رغم عدم توافر الموارد لديهم، ولكن مع ذلك فهم يقدمون كل ما يستطيعون تقديمه من التضحية والفداء من اجل الإنسانية وإنقاذ الإنسان من محنة انتشار الوباء (كورونا) القاتل، في وقت تكون فيه الإمكانيات المادية محتكرة بيد (الطبقة الرأسمالية) والأغنياء ولكن لا يبادرون إلى تقديم المساعدة والتضحية من اجل الإنسانية وإنقاذ الإنسان في من محنة انتشار الوباء؛ فهم لا ينفقون ثرواتهم الهائلة في بناء المستشفيات والمدارس والمؤسسات الثقافية؛ لان هذه القطاعات لا تدر عليهم (أرباحا مالية وفيرة). فــ(الطبقة الرأسمالية) في كل أنحاء العالم وخاصة في (أمريكا) على استعداد لان تنفق آلاف المليارات على التسليح وإنتاج وتجارة الأسلحة المدمرة للحياة البشرية وتطوير أنظمة التجسس الإلكترونية التي تنتهك خصوصية الفرد وحريته، ولكنهم يتقاعسون عن تخصيص أي مبلغ مهما كان قدره حتى وإن كان أقل من مليون دولار، وهو مبلغ لا يعد شيئا بالنسبة إلى ملايين المليارات التي يمتلكونها، لبناء مستشفى أو مدرسة أو منتدى علمي أو ثقافي أو مد شبكة مياه صالحة للشرب في المناطق الفقيرة أو دعم أو استثمار في البحوث العلمية لأغراض سلمية ومجتمعية خاصة بإنتاج أدوية للأمراض المحتملة أو النادرة؛ ولم يعيروا أي اهتمام لتطوير تقنيات اللقاحات ضد الفيروسات والأمراض المعدية مثل (كورونا) من قبل، إلى ان أصبح هذا المضمار مجالا مهما من اجل جمع المال والأرباح فحسب. من خلال ما تقدم من سلوكيات (نظام الرأسمالية) المتوحشة يظهر مدى التناقض بين (الرأسمالية) والمفهوم الإنساني للرعاية الصحة، وكل هذه الإرهاصات وما أثارته جائحة (كورونا) القاتل الذي أصاب أكثر من (مائة وخمسة وسبعين مليون) إنسان وقتل ما تجاوز عتبة (الأربعة ملايين) إنسان، قد صاحب كل ذلك ردود فعل مجتمعية سلبية اتجاه (الرأسمالية) لتصبح في عين العاصفة والثورة المجتمعية؛ لان نسبة الأغنياء لا تقارن بنسبة الفقراء في العالم، وان الانتقادات التي توجه لهذه (الطبقة الرأسمالية) سواء قبل أو بعد جائحة (كورونا) أصبحت مدار حديث الرأي العام في كل دول العالم وليس في دولة دون أخرى، ولهذا لا بد من إرساء منظومة اقتصادية وسياسية في (النظام العالمي) ما بعد (كورونا)، بعد أن فتح باب الحرب الباردة مجددا بين (الولايات المتحدة الأمريكية) من جانب و(الصين) و(روسيا) من جانب آخر؛ لان النظام ذا القطب الواحد الذي تديره (الولايات المتحدة الأمريكية) أصبح هذا النظام الأحادي القطب الذي نعيش فيه قد وصل إلى مرحلة كل مؤشرات الواقع توحي بأنه لن يستطيع الاستمرار في أداء مهامه وانه لن يصمد بوجه إعصار العاصفة المجتمعية التي تعصف باتجاه (الرأسمالية) المتوحشة، ولهذا فان عالمنا بكل الإرهاصات التي يمر بها سواء عبر انتشار جائحة (كورونا) أو ما يحصل في مناطق عدة من (آسيا) و(إفريقيا) و(أوروبا) و(دول أمريكا الجنوبية) من توترات وفي كثير من المناطق تصاحبها ثورات وحروب ربما قد تتوسع إلى نطاق حروب كبرى.. هذه المصاعب ما هي إلا مؤشرات ورد فعل طبيعي يصاحب (الانتقال التاريخي) من نظام عالمي نشأ بعد زوال (الاتحاد السوفيتي) وهيمن عليه (الاقتصاد الرأسمالي) وقادته (الولايات المتحدة الأمريكية) والدول (الرأسمالية) التي سارت في ركبها إلى نظام جديد، وما لم تتدخل الطبقة الكادحة.. والقوى العاملة.. والمسحوقون.. والفقراء.. لتحديد ملامحه بـ(اللاهيمنة) و(اللا نفوذ) و(المتعدد الأقطاب)، عالم ينشد العدالة الاجتماعية.. والرعاية الصحية.. والمساواة.. وسلامة البيئة.. ويولي للقيم الإنسانية الاهتمام الحقيقي.. ويصحح مسار الاقتصادي.. والاجتماعي.. والسياسي.. بما يواكب تطلعات البشرية قاطبة؛ وينهي كل أشكال التمييز والعنصرية والقضاء على الفوارق الطبقية والاستبداد والفساد والفقر. نعم إن التنمية لا تستقيم بدون (الديمقراطية)، ولكن ليست (الديمقراطية) التي تصدرها (الرأسمالية) المتوحشة تحت عباءة (الليبرالية) و(النيوليبرالية) التي تخدم مصالح أصحاب الثروات والقوى (الرأسمالية) واستثماراتهم في قطاعات تخدم مصالحهم؛ بينما يغيب أمرها في المؤسسات الاجتماعية الحيوية التي تخدم الشعب؛ لان (الديمقراطية) في ظل (الأنظمة الرأسمالية) تسعى إلى مصادرة مكتسبات القوى العاملة والطبقة الكادحة والتي حققتها هذه القوى المناضلة عبر كفاح ونضال وعلى كل مسارات الحياة الاجتماعية، لذلك فان قوى (الرأسمالية) تسعى بكل ما أوتيت من قوة وفعل لتشييء الإنسان لصالح الإنتاج فحسب وليس من اجل الحرية والمساواة وتوزيع الثروة بشكل عادل ومن اجل تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء مؤسسات الدولة الاجتماعية والمنظومة التعليمية والتربوية والأسرية وهيئات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات لبناء مواطن يشعر بوطنيته بكامل استحقاقاته وحقوقه ليؤدي واجباته بكل مسؤولية ويكون حاضرا في جميع الاستحقاقات السياسية والاجتماعية، وهذا ما أفرزته جائحة (كورونا) ليؤشر على مدى فشل (الديمقراطية الرأسمالية) التي أصدرتها عبر (الليبرالية) و(النيوليبرالية) لتطويق الأزمة الوبائية بعد أن عجزت المؤسسات المعنية بالصحة والتربية عن مواجهة الجائحة. ومن هنا يأتي دور تصحيح مسار (حركة التاريخ) في ظل مسار عقل (الرأسمالية) المتوحشة وذلك بتطوير وانتشال (الديمقراطية) التي غرقت في بنية (الأنظمة الرأسمالية) المستبدة بما يخدم المواطن ومصالحه لتكون له سلطة حقيقية في محاسبة كل التجاوزات على حقوق المواطن في إطار القانون والعدل؛ وتجعل الجميع متساوين في الحقوق والواجبات لتكون (الديمقراطية الحقيقية) هي التي تجعل من مصلحة الشعب والمواطن هدفا وغاية في تنمية برامج الدولة الإنمائية اقتصاديا واجتماعيا بشكل واعد بما يعزز في المجتمع روح التآخي.. وعدم التمييز.. والاعتراف بالآخر.. وحقوق الإنسان.. وتقبل الاختلاف.. والتنوع.. وحرية الرأي والتعبير.. بعيدا عن أي معايير ازدواجية وتمييز بين المواطنين. لهذا لا بد من إعادة ترتيب (النظام الدولي) بأفق إنساني محض للحد من الظلم الاجتماعي.. والتمييز الطبقي.. وسباق التسلح الذي لن تكون نهايته إلا بتدمير الحياة البشرية ومزيد من المعاناة. ومن اجل أن نتفادى هذا السيناريو المؤلم؛ لا بد من بناء مؤسسات دستورية بإرادة جماعية مجتمعيا تخدم مصالح المجتمع وتحد من المخاطر التي تواجهها الإنسانية جمعاء؛ وخاصة أننا نعي مدى خطورة هذه المرحلة غير المسبوقة؛ رغم أن مجتمعاتنا مر عليها مثل هكذا أوبئة.. وكوارث.. ومجاعات.. وحروب.. ولكن ليس بحجم شراسة (الرأسمالية) وتوحش أفعالها في عصرنا هذا، لان كل المؤشرات التي نلاحظها ونقارنها بما سبق تبدو غير مسبوقة في طبيعة ما يتعرض له عالمنا. نعم نحن اليوم مازلنا في المراحل الأولى بعد مرور عام على انتشار فيروس (كورونا) القاتل، وخلال هذه المرحلة تتناقل دوائر الصحة ان هناك تطورا هائلا في جينات الفيروس ليكون أكثر خطورة وفتكا بالبشرية من المرحلة الأولى؛ وربما في قادم الأيام سنسمع عن جينات فيروسية جديدة أكثر تطورا وفتكا وكل ما هو عجيب وغريب من سرعة الانتشار والانتقال وقدرة الفيروسات على إجبار سكان دول العالم اجمع أن يلزموا بيوتهم في انتظار مصير غامض مجهول في وقت تعجز الدوائر الصحية في دول كثيرة وخاصة في العالم الثالث عن إيجاد اللقاحات؛ وان وجدت فسرعان ما يتم الإعلان عن تغيير جينات الفيروس وتحوره؛ بما يجعل العلاج المكتشف يبدو غير مجد أو على الأقل غير كاف! كيف يحدث ذلك؟.. لا أجوبة لا عند المتخصصين ولا عند علماء الطب والبحوث البيولوجية!... ولا أحد يعلم بما يحدث ويدور خلف الكواليس (إلا) في عقول من يقفون وراء هذا الفيروس القاتل والقادر على تحوير وتغيير جيناته وصفاته؛ لتحقيق أهداف مرعبة من خلال هذه التصرفات غير الأخلاقية التي تقف وراءها مؤسسات (الرأسمالية المتوحشة) التي تضرب عرض الحائط بكل قيم العلم والمعرفة والفلسفة ومبادئ الأخلاق والجمال التي انبثقت في (عصر التنوير) والتي سعت لبناء حضارة الإنسان لتفتح آفاق النور أمام مستقبل الإنسان (لا) أن تجرف كل ذلك إلى قاع المستنقعات من اجل (الرأسمالية) المتوحشة التي لا قيم لها إلا جمع المال واستثمار الثروة من اجل الإنتاج والصناعة، واغلبها لا فائدة منه كصناعة أسلحة الدمار الشامل؛ إضافة إلى تغاضيها عن الالتزامات والاتفاقات الدولية والحقوقية بشأن ضرورة المحافظة على حق الحياة لكل إنسان باعتباره حقا إنسانيا بغض النظر عن عرقه.. وطبقته.. وديانته.. ومعتقده الأيديولوجي، لأن البشرية منذ البدء ناضلت.. وكافحت.. وجاهدت.. وعملت ليل نهار من اجل بناء نظام أرفع للحياة، فكيف نسمح اليوم لنظام (رأسمالي) متوحش بتدمير كل إنجازات البشرية ؟! { باحث وكاتب من فلسطين
مشاركة :