لم يعد الإعلام الأردني يقف في مفترق طرق مثلما يُستحب أن يقال عادة بل هو سائر فعلا في طريق التراجع والتهميش والاضطهاد المالي، وذلك في أجواء "قانونية" خانقة لحرية التعبير وحقوق الصحافيين وتدخلات أمنية جعلت وسائل الإعلام، إلى حد بعيد، أشبه بنشرة حكومية موحدة. كشفت السنتان الأخيرتان تحديدا عن نظرة الدولة إلى الإعلام وتقدير دوره في تناول الأحداث الكبرى التي شهدتها المملكة وكيف اتخذت الصحف والمواقع الإخبارية المحلية مرتبة "آخر من يعلم" بما يجري في الأردن أو أنها في أحسن الأحوال ناقلة للخبر وغير مسؤولة عن تحليله أو توضيحه للناس إلا في حدود الرواية الرسمية. خلال هجوم داعش على قلعة الكرك الذي أودى بحياة 13 شخصا قبل خمس سنوات، كان التلفزيون الحكومي مشغولا بالحديث عن فوائد النبتة العلاجية "الميرمية"، فيما القنوات الفضائية الأجنبية تبث مباشرة من موقع الحدث في جنوب المملكة. لم تختلف الحال كثيرا منذ ذلك الحين وذهنية "تلفزيون الميرمية"، كما تحلو للأردنيين تسميته، لا تزال حاضرة في وسائل الإعلام المحلية الأخرى التي استعادت هذه الذهنية أخيرا في خضم أزمة الأمير حمزة حين أصبحت صحف عالمية مثل واشنطن بوست وفايننشال تايمز، مراجع للأردنيين لمعرفة ما يجري في القصر الملكي. وإذ تعكس هذه الذهنية الحجم الذي تريده السلطة للإعلام المحلي، فإنها تنطوي أيضا على مفارقات محرجة واقعيا للسلطة سواء في فقدانها أدوات التأثير تحت وطأة العصر الرقمي والبث الفضائي أو المخاطرة بإطلاق العنان للتأويلات والتفسيرات وأحيانا التضخيم في وسائل الإعلام الأجنبية. السلطات التي تسمح لوسائل الإعلام الأجنبية بالتغطية الحية هي نفسها التي تبعد الإعلام المحلي عن ساحته الحقيقية وتجعله مثل رهينة ينتظر تلقينه ما يقول ومتى يقول ليخرج به على الناس. وهُم الذين باتوا يتجاهلونه وصاروا يتابعون أخبار بلدهم على الشاشات التي تبث من الخارج. هذا التقييد كان واضحا منذ بدء انتشار فيديوهات الأمير حمزة التي تنتقد أجهزة الحكم والتأخر في الإعلان رسميا عن أبعاد ما سمتها الحكومة أولا محاولة انقلاب على النظام ثم وصفتها بالمؤامرة وأخيرا "قضية الفتنة". وفي كل ذلك، كان صوت الإعلام المحلي عبارة عن صدى لما تقوله مؤسسة الحكم التي بدت مرتبكة حينها وأربكت معها وسائل الإعلام. غياب أو تغييب الإعلام المحلي لا يمر من دون خسائر للسلطة نفسها التي أحاطت الصحف والمواقع الإخبارية والقنوات التلفزيونية والكُتاب بقيود النشر ولم يعد لديها ما تقوله سوى التصريحات المقتضبة المعهودة القائمة على اعتبارات أمنية في المقام الأول. بعبارة أخرى، الصحافيون والكتّاب الذين تقيّد الحكومة قدرتهم على التأثير في الرأي العام منذ سنوات طويلة، لن تجدهم حين تحتاجهم في الأوقات الصعبة على صعيد الأحداث الساخنة واستقرار البلد وأيضا في نقل رسالة الوحدة الوطنية والإصلاح السياسي. ربما كان ذلك كله في ذهن الملك عبدالله الثاني يوم بدا مستاء من وصول تصريحات ولي العهد السابق إلى وسائل الإعلام الأجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي. وقال لشبكة "سي.أن.أن" الأميركية الشهر الماضي "لولا التصرفات غير المسؤولة بتسجيل المحادثات مع مسؤولين أردنيين بشكل سري وتسريب مقاطع الفيديو، لما وصلت فينا الأمور للحديث عن هذه القضية في العلن". هذه القضية لم يشهد الأردن مثيلا لها وسلّطت الأضواء على الخلافات داخل العائلة المالكة وخاضت وسائل الإعلام الأجنبية في أدق تفاصيلها، بينما بقي الإعلام المحلي يتحرك في نطاق الحدود المرسومة التي تجاوزها الزمن ووقعت تحت سطوة السوشيال ميديا. بطبيعة الحال، أزمة الإعلام الأردني متشعبة ومزمنة. وعلى صعيد الورق، سبق وأن شهدت في 2013 إغلاق صحيفة "العرب اليوم"، التي كانت صوتا مختلفا عن وسائل الإعلام الرسمية لكنها انهارت مع ضعف الموارد وبسبب تراجع الإعلانات والتوزيع. ثم تلتها صحف ومواقع إخبارية عديدة. وها هما أقدم يوميتين في الأردن، الرأي والدستور، تعيشان في ضائقة مالية. هيمنة الشاشات لم توفر أي صحيفة ورقية في العالم، غير أن أجهزة الحكم في الأردن تسمح لنفسها بالتدخل في توجيه الرسائل التي تنقلها الصحف للناس وتحجم عن التدخل في إنقاذ الصحف من الانهيار. ولعل هذا يمثل تأكيدا آخر على أن الحكومة ارتضت ألا تُنزل الإعلام الأردني منزلته التي يستحق، في حين لا تزال التدخلات الأمنية على قدم وساق في المحتوى الإعلامي، مدعومة بقوانين وتدابير هبطت بسقف الكلام المباح وجعلت المنظمات الحقوقية الدولية تصنف المملكة على أنها "شبه حرة" في مجال التعبير والحقوق السياسية. القيود الرسمية المعلنة والمحذورات الأمنية المعروفة ضمنا تظهر على الأرض مع كل احتجاج وتقود من يخترقها أو يعترض عليها إلى الاعتقال والمحاكمة في الأردن الذي يجرّم انتقاد المسؤولين والحكومة والدول "الشقيقة والصديقة" والتعرض للأديان والإساءة للملك. وحتى تكتمل حلقة القيود، كان لا بد من مراقبة فضاء الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما لم توفره الحكومة حين سيّرت "دوريات إلكترونية" أمنية تطارد ما يقوله الناس وتحسب عليهم آراءهم. هذا إلى جانب الكُتاب والصحافيين وقادة الرأي الذين ليس مصرّحا لهم الحديث إلا في ما هو مسموح، ومنه التوجه إلى نبتة عشبية أخرى مفيدة في أيام الضيق!
مشاركة :