أيها الملحد: هل رأيت عقلك؟! هل أدركته بحواسك الخمس، هل شممته بأنفك، هل سمعته باذنك، هل ذقته بلسانك؟! وإذا كنت لم تدركه بواحدة من هذه الحواس, فكيف أدركت أن لك عقلًا يميزك عن باقي المخلوقات التي ليس لها عقل ولا ادراك؟ وإذا كنت لم تر عقلك, ولَم تدركه بأية حاسة من حواسك الخمس, فهل تقضي وتحكم بعدم وجوده, لا شك ان هناك وسيلة خارج حدود الحواس الخمس أدركت بها أن لك عقلًا راشدًا تختار به بين البدائل, وتميز به بين الضار والنافع, وبين الشر والخير, وهذه الوسيلة لا تخطئ في حكمها, ولا شك في أقضيتها. إذًا, فأنت لم تدرك بحواسك الخمس أن لك عقلًا يدرك, ويختار بين البدائل, بل أدركت ذلك بآثاره, وتجلياته وإذا كان مخلوقًا من مخلوقات الله تعالى لم تستطع أن تدركه بحواسك الخمس, ولا تصل إليه بوسائلك المحدودة, فكيف تريد أن تدرك واجب الوجود سبحانه, الحي الذي لا يموت, الذي له الملك والملكوت جل جلاله, وتقدست أسماؤه وصفاته, لا إله إلا هو سبحانه وتعالى, وها هو نبي من أولي العزم من الرسل عليهم صلوات من ربهم ورحمة يتعرض لدرس عظيم, ولتجربة شديدة كادت أن تقضي عليه لولا أن أدركته عناية الله ورحمته, إنه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه ينظر إليه, فلم يحقق له رجاءه رحمة به, قال سبحانه وتعالى: «ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين» (الأعراف : 143). لم يستطع نبي الله موسى أن يرى أو أن يتحمل رؤية الجبل المتجلي عليه, فكيف يتحمل المُتَجَلي سبحانه وتعالى؟! إن حواسك الخمس أيها الملحد رغم أنها من وسائل إدراكك إلا أنها لها حدٌ تقف عنده ولا تتعداه, فالعين مثلًا لها حدٌ لا تستطيع تجاوزه وإن أرادت, والأذن كذلك لا تقوى على سماع صوت أعلى ولا أدنى من دائرة إمكانها, وكذلك جميع الحواس, بل إن العقل مهما سما وبلغ من القدرة على الإدراك له حد لا يتجاوزه, فمجاله التعقل ولا يقدر على التصور مهما كان صاحبه عالمًا أو ذكيًا, ولقد ضرب العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي لنا مثلًا على ذلك, فقال: لًو كنا في غرفة محكمة الإغلاق وسمعنا طرقًا بالباب, فكلنا نتعقل أن هناك طارقًا بالباب, فإذا أردنا أن نعرف من الطارق, وماذا يريد, فإننا سوف ندخل في دائرة التصور, وهذه ليست من عمل العقل, فسيقول واحد: إنه صديق صاحب البيت, ويقول ثانٍ : إنه ساعي البريد, ويقول ثالث: إنه أحد أقارب صاحب البيت, وسوف نختلف ولو وقفنا عند حد التعقل لاتفقنا, كذلك توصل العلماء بعد بحوثهم الطويلة إلى أن لا بد لهذا الوجود من إله ينظم حركته, ويحفظ توازنه, وأن يكون لهذا الإله جميع الكمالات وهو لا يحتاج إلى غيره, ولكن غيره محتاج إليه, يقول سبحانه: «ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين» (العنكبوت. : 6). وهو سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدركها لأنه جل جلاله لطيف خبير, قال سبحانه وتعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير» (الأنعام : 103), لهذا عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبوبكر (رضي الله عنه) الغار ليلة الهجرة خشي أبوبكر أن يرى الكفار رسول الله وينالون منه, فطمأنه صلى الله عليه وسلم بقوله : يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبابكر لا تحزن إن الله معنا, عندها نزل قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم» (التوبة : 40), وقال العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي: إن الله تعالى لا تدركه الأبصار ومن كان في معيته سبحانه لا تدركه الأبصار, ولهذا لم ير الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رغم أن مكانهما أقرب إليهم من شراك نعلهم. إن إلهنا الذي نعبده ولا نعبد سواه, ونوحده ولا نشرك به شيئا بخلاف إلهك أيها الملحد, فأنت تعبد الطبيعة, وتعبد الأصنام من البشر, والشجر, والحجر لأن إلهك الذي تعبده, وتتولاه من المادة لأن وسائل إدراكك عاجزة عن الترقي لبلوغ المرتبة التي بلغها المؤمنون بإله واحد لا شريك له اتصف بجميع الكمالات التي للإله الحق. إن آلهة الرومان والفرس واليونان آلهة متعددة, فلهم إله للخصب, وإله للشر, وإله للخير, ورابع للجمال, وأن هناك صراع بين هذه الآلًهة المدعاة أما المؤمنون برسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم, فهو إله واحد فرد صمد لم يلد ولَم يولد, ولَم يكن له كفوًا أحد سبحانه. هذا هو إلهنا الحق, الواحد الأحد, الحي القيوم, الذي لا تأخذه سنة ولا نوم, وهو يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه, يقول سبحانه: «والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم(38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون» (40) (سورة يس). إنها سنن مؤكدة لا تضطرب أبدًا, للشمس فلك تجري فيه, وللقمر فلك يجري فيه والكل يسبح بقدر معلوم, وباتزان موزون, فلو كان الإله الذي نعبده يجري عليه ما يجري على الخلق من نقص - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا - لسقطت السموات علينا كسفًا ولدمرتنا تدميرا كما حدث لأمم قبلنا, مثل : قوم نوح وهود وصالح, ولوط (على رسولنا وعليهم الصلاة والسلام). وسؤال أخير يلزم طرحه عليك وهو: هل أنت حي؟ فإذا قلت: نعم, فأسألك: بماذا صرت حيًا لا شك أنك ستقول: بوجود الروح فيك, هل رأيت هذه الروح, هل لمستها أو أدركتها بحواسك الخمس أم عرفتها بتجلياتها فيك؟
مشاركة :