كما ذكرنا في مقالة سابقة أن أبا حيان التوحيدي، الأديب والفيلسوف والصوفي، قد كانت له جلسات، مسامرة، وإمتاع، ومؤانسة في بغداد، مع أبي عبدالله العارض وزير الصمصام البويهي، وقد سطر ما جرى في رسالة إلى صديقه أبي الوفاء المهندس، فخرج كتاباً سماه: الإمتاع والمؤانسة، شمل على سبعة وثلاثين ليلة من مسامرة الوزير. هذا الكتاب الرائع يشمل على الكثير من الأمثال والأشعار والحكم، وسنتنقل بين أشجار هذا البستان، لنقطف من ثمره ما يحلو، ونختار ما يطيب ويزهو، ونتغلغل في معانيه، ونستفيد من مراميه، فنبتهج كما ابتهج الوزير، ويتعظ من لديه لب خبير، قصص وعبر، وعجر وبجر، ومدح وهجاء، وحب وجفاء، وغير ذلك من المتع والاعتبار. في الليلة الأولى اجتمع أبو حيان بالوزير، وكان لابد من تحديد إطار لأسلوب المؤانسة، حتى يعرف أبو حيان حدوده في النقاش مع الوزير، لكن الوزير بادر إلى طرح ما تبتغيه نفسه، ويميل إليه قلبه، فقال الوزير لأبي حيان: دع عنك تفنن البغداديين مع عصر لفظك، وزائد رأيك، وريح ذهنك، ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغنياء، وأجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت، وأصدق إذا أسندت، وأفصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً، أو تهادياً، وما أحسن ما قال الأول: لا تَقْدَح الظِّنَّةُ في حكمه شيمتُه عدلٌ وإنصافُ يَمضي إذا لم تَلْقه شبهةٌ وفي اعتراضِ الشكِّ وَقَّافُ ثم أبان الوزير له بأنه سوف يكتشف من حديثه إن كان صادقاً، أو كاذباً، أو محرفاً، ولا غرو في ذلك، فوزراء ذلك الزمان يكونون في الغالب من المثقفين، والمهتمين بالأدب واللغة لتساعدهم على مؤانسة الملوك، وكتابة الخطابات وغيرها. وأراد أبو حيان أن يحمي نفسه فيما إذا تجاوز الحد في مخاطبة الوزير بأسلوب المخاطبة، فقال: يؤذن لي بكاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية، ومضايقة التعريض، واركب جدد القول من غير تقيه، ولا تحاش، ولا محاوبة، ولا انحياش. وهو بهذا يريد أن يستخدم ألفاظاً وجملاً مثل الرد عليه بقول، كلامك، بدلاً من رأيكم أعزكم الله، ويسمح له بأن يقول مثلاً: أنت قلت، ولا بمثل قول: أما جاد به لسانكم البليغ أو نحو ذلك، فلا نفاق ولا تقيه، ولا محاشاة للألفاظ والعبارات، يعني أن يأخذ راحته في الكلام بالعبارة الدارجة في هذا الزمان، فقال الوزير: أنت مأذون فيه، ثم ذكر أن ذلك لا يرفع من قدر الإنسان، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد خاطبه الناس مباشرة دون تنميق، فيقال: يا عمر، ولم يأنف من ذلك، والرئاسة لا تكون حتى تصغو من شوائب الخيلاء، ومن مفاتيح الزهو والكبرياء، فكان رد أبو حيان التوحيدي جميلاً ومن ذلك، قوله: «ما تعاظم أحد على من دونه، إلاَّ بقدر ما تصاغر لمن فوقه، وقال ابن السماك للرشيد: لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك. لعلي أتوقف عند هذا القول الجميل، فهو حقيقة واقعة في كل الأزمان، فإذا ما رأيت إنساناً متكبراً متحيزاً على من دونه رجلاً أو امرأة، إلا ونجده ذليلاً على من فوقه، وهذا ظاهر معلوم مهما كان مقام الإنسان، ومكانته، وعدد من دونه، وهذا نراه جهاراً نهاراً، والحقيقة أن الكبر والتسلط داء عضال، وفي الغالب فإن من به تلك الصفات يذوق مرها مع من فوقه، لأن من فوقه قد يكون متكبراً عليه بنفس المقدار، إلا إذا حباه الله بمن يتمتع بخصال حميدة. وأراد أبو حيان أن يضع في ذهن الوزير أهمية الحديث والمآنسة، وأن فيها من المتعة ما يروح به المرء عن نفسه فالدنيا فانية وهمومها لا تنقضي، ثم قال: إن عبدالملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر. وقال: سمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأشدنا قوله: ولقد سئمتُ مآربي فكأنَّ طيِّبَها خَبِيثْ إلا الحديث فإنهُ مثلُ اسمه أبداً حديثْ وقال سليمان بن عبدالملك: «قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب، حتى أجمناه (أي كرهناه)، وما أنا اليوم إلى شئ أحوج، مني إلي جليس يضع عني مؤنة التحفظ، ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب». بعد ذلك أخذ أبو حيان يستمد ألفاظه من فلسفته، ولما لا وهو عالم الفلسفة وفيلسوف العلماء ومما قاله: النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا في العقل، والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. وإذا أراد الوزير إنهاء الجلسة طلب من أبي حيان ملحة الوداع، وهذه الملحة عادة تكون طرفة، أو قصة جميلة، أو شعر، يذكرها أبو حيان دون إسهاب، أو إطاله، أو فلسفة حتى لا يأخذه الحديث فيمل الوزير ويطلب إنهاء الجلسة، قال أبو حيان: قال ابن يوسف: ما معناه: رأيت جحظة قد دعا أحد البنائين ليبني له حائطاً، فحضر، ويبدو أن البناء قد طمع في جحظه لكونه شاعراً معروفاً، ومن سلالة البرامكة، ولديه مال كثير، فقال له جحظة كيف تطلب عشرين درهماً أجراً لعمل لم يأخذ منك سوى نصف نهار، فقال له البناء: إني بنيت لك جدار يبقى مائة عام، لكنه بعد أن أكمل حديثه سقط الجدار من ساعته فقال له جحظة: هذا الجدار الذي تقوله إنك أحسنت بناءه، ها هو سقط من ساعته، فقال له البناء: أتريد أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك، فضحك. هكذا كانوا سماحة، وحديث ظريف، ولطف، لكن ليس في كل الأحوال، والدنيا لها غارات وإبدال، كما أن النفس تزيغ عن العقل فتتألم وتؤلم غيرها، حتى تلقى ربها. هذه متع من حديث دار في الليلة الأولى لتلك المسامرة الجميلة، وستتبعها متع ليال أخرى بما فيها من حكم وغرائب.
مشاركة :