في الليلة الثانية من تلك المؤانسة بين الوزير أبي عبدالله العارض وابن حيان التوحيدي، سأل الوزير الأديب أبا حيان عن بعض من أساتذته ومعاصريه، وهم مجموعة من العلماء الأفذاذ، وقبل أن نبحر فيما قال ابن حيان عنهم، وما ذكره من فضائلهم ومثالبهم، يمكننا القول إن بغداد في ذلك العصر ميدان واسع للعلم والفلسفة والثقافة المتنوعة، ولم تقتصر على علم بعينه أو مصدر في ذاته، لم يكن هناك حواجز لغوية أو عرقية تحول دون ذلك التمازج البديع في تلك الحقبة من الزمن مع ما شابه من منافسات ومكائد وحبائل بين الوزراء والكتاب والسفراء، ومناظرات ومنافسات بين العلماء. سأل الوزير أبو عبدالله بن العارض الأديب ابن حيان عن أبي سليمان المنطقي، وهو عالم فلسفة يونانية ويرجع أصله إلى منطقة سجستان، وسأله عن عالم آخر وهو أبي علي عيسى بن إسحاق بن زرعه، وهو من أسرة عراقية نصرانية الديانة كابراً عن كابر يعقوبي الأصل، نصراني الديانة كما هي أسرته، عالم في الفيزياء والطب وله رسالة في علم الكواكب والنجوم، وكذلك سأله عالم آخر هو ابن الخمار، الحسن بن سواد، وهو نصراني الديانة فيلسوف وأديب، نقل كتباً كثيرة من السريانية إلى العربية، حيث كان يجيد اللغتين، وسأل عن ابن المسمح، أحد فلاسفة بغداد، مسلم الديانة سني المذهب، وكذلك الفيلسوف القوسمي، وابن مسكويه، الكيميائي والفيلسوف والأديب، كان آباؤه مجوساً فأسلموا، وسأل عن القس نظيف النفس الرومي طبيب مشهور، نقل عن اليونانية إلى العربية، نصراني الديانة، وسأل عن يحي بن عدي، وقد أخذ العلم من بشر بن متى والفارابي فيلسوفاً نصراني الديانة، وسأل عن عيسى بن علي الجراح، وهو فيلسوف مسلم سني، كل ذلك التنوع موجود تحت ديانة خليفة سني، ودولة بويهية حاكمة فعلاً شيعية المذهب. أقول هذا لنرى ذلك التسامح والتمازج، حيث لا يوجد فوارق مبنية على الدين أو المذهب أو العرق فكان نتاجاً علمياً عظيماً، وفي ظني أن التطور والتقدم يحتاج إلى مساحة من التنوع ليكون العطاء أكثر تنوعاً من خلال اختلاف الثقافات والمنبع الذي يستقي منه المرء أساس بناء ثقافته، وكذلك القيود التي تلزمه بها تلك الثقافة، وهذا يعني خليطاً من ينابيع شتى، تجد لها هنا سداً، وهناك فجوة ومدى، ينبع منها تنوع الثقافة عطاء متنوعاً يثري العقول والألباب، ويبني حضارة مزدهرة. والآن، سنقف على بعض مما ذكر أبو حيان عن أساتذته المعاصرين له، وهم علماء يشار لهم بالبنان، فسأله الوزير أولاً عن صديقه وأستاذه في علم المنطق أبي سليمان المنطقي، لكن أبا حيان لا يمكن له أن يقول في أستاذه وصديقه إلاَّ كل جميل، ولا ينقل عنه إلاَّ ما يشفي الغليل، حتى بالغ في ذلك بلوغ المبالغ المنافق، الذي لا تردعه حواجز ولا رواجز، وذكر أن صديقه المنطقي قد كتب رسالة في الوزير، ومما قال فيها: «ما أعرف اليوم ببغداد، أشكر لك وأحسن ثناء عليك منه»، وما قال: ما أتاك الله أيها الوزير من كرم أخلاقك، ومحبة أوليائك، وكد أعدائك، وفصاحة لسانك، ويمن تقيتك، ومحمود شيمتك ، إلى آخر ذلك من المديح المبتذل، مثل قوله إن الزمان بمثله لبخيل، لذَّته لمح في تهذيب الأمور، إلى آخر ما قال، وكان أبو سليمان المنطقي به عور وبرص منعه من ريادة المجالس الملوك والوزراء، مع علو قدرة وعلمه، لكن أبا حيان لم يترك أستاذه دون أن يذمه فقال: إنه أظفرهم بالدرر، وأوقعهم على الغرر مع تقطع في العبارة، ولكنها ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وجرأة تفسير في الرمز، وبخل بما عنده من الكنز. ثم ذكر ابن زرعة، فبعد أن أثنى عليه، ذكر أن فكره قد تشتت بسبب إشغاله بالتجارة، ومحبة للربح، وحرصه على الجمع، وشدته على المنع، وهو مبدد مندد، وحب الدنيا يعمي ويصم. ثم سأله عن الخمار، فبعد أن مدحه ذكر أنه يخلط الدَّرة بالبعرة، ويفسد السمين بالغث، ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف، وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف، وما يصفيه بالصواب يكدره بالإعجاب، ثم عرج في إجابة على طلب الوزير على ابن السمح، فذكر أنه لا ينزل بفنائهم ولا يسقي من إنائهم، أي أنه دونهم، وذكر أن سبب ذلك شيئان: أحدهما بلادة فهمه، والآخر حرصه على كسبه، وذكر أنه لا يتورع عن أخذ القليل أو الكثير، فهو يأخذ الدانق والقيراط، والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف، أي أنه لا يتورع عن أخذ القليل حتى الوانق وهو سدس الدرهم، والقيراط وهو نصف الوانق، والحبة وهي وزن الشعيرتين، والطسوج وهو ربع الوانق، ثم ذكر أن المرء إذا لم يتق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة، ثم تحدث عن القومسي، فذكر أنه مع قدراته الأدبية والعلمية، إلاَّ أنه غير نصيح في الحكمة لأنه مقلد، مع حب للدنيا شديد، وحسد لأهل الفضل عنيد، ثم أخذ في الحديث عن ابن مسكويه، ويبدو أنه لم يكن راض عليه، ربما لأنه لم يقربه ويدنيه فقال عنه: إنه فقير بين أغنياء، وغني بين أبيناء، فتعجب الوزير من قول ابن حيان لأن ابن مسكويه كان قريباً من الحكام وعالم مميز، وأديب، وخالط وجالس وعمل مع ابن العميد الوزير والأديب المشهور، لكن ابن حيان قد علل سبب دنوه عن معاصريه وأقرانه، بأنه انشغل بدراسته علم الكيمياء مع الرازي، متوناً بكتب ابن زكريا، وجابر بن حيان، وهو بهذا يذكر أن توجهه علمي، وأنه دخيل على الأدب يدرسه للاستفادة منه في الوصول إلى المناصب العليا في الدولة، ومجالسة علاة القوم، كما همز ولمز على أنه صاحب شهوة، ولذة ووطر، يضيع بعض وقته في ملذاته. هكذا كان قول ابن حيان في هؤلاء الأقذاذ من معاصريه، والحقيقة أنه قال ما يراه دون مواريه أو خوف أو طمع لأنه كتبها لصديقه وصاحبه، وطلب منه عدم إظهارها وإيقافه عنده حتى لا يتعرض للانتقام من هؤلاء النافذين في الحكم، وقد واصل طرحه فيمن بعده وسوف نتعرض لها في مقال قادم.
مشاركة :