ما المجتمع إلا رابطة تربط بين مجموعة من الأشخاص من أجل تعاون جماعي، لكنه التف على الغاية الحميدة التي على أساسها بني، وابتكر منظومة من الصيغ وثبتها لإحكام السيطرة على أفراده وإلزامهم عدم الخروج عن الجماعة، لأنه يخشى التمرد ويحب التملك إبقاء لمصالحه (مصالح الفئة التي تنتفع من العمل الجماعي). ويظهر جلياً تأثير المجتمع على التفكير الفردي من خلال تحدث الواحد بضمير الـ"نحن" أي بلسان الجماعة، ليس تأدباً أو تواضعاً أو تعظيماً أو إعجاباً، ولا دلالة على مشاركة الفرد العمل مع الآخرين، بل يصدر ذلك لا شعورياً ليؤكد تغلغل الجماعة في الفرد. للمجتمع قوة خفية تدفع الأنا للاستسلام فتصير أسيرة للجماعة وملكاً لها، تحركها رياح الجماعة حيث تشاء وفوق طاقتها، وبذلك يجد الفرد نفسه يعمل وفق إرادة الجماعة، وليس بحسب إرادته ورغباته وتوجهاته الفكرية. ينتج المجتمع ضميراً مشتركاً موحداً تحكمه العادات والتقاليد والأعراف والسلوكيات السائدة، بدلاً من المنطق والفكر السليم، فيحتوي الأفكار الشخصية ويقولبها في قوالب جماعية تسيطر على العقول والنفوس. تتولد عن هذه القيود الاجتماعية قيود نفسية يصعب على الفرد التخلص منها، إن أدركها، لأنها تتغلغل في أعماق النفس ومنذ الصغر، فتولد استعدادات داخلية قوية تدفع الفرد للرضوخ والتبعية والاستسلام، ومن تم يشد الضمير الجمعي ربقته وبإحكام على الفرد ويجعله خاضعاً أي منفعلاً لا فاعلاً. هكذا فالضمير الجمعي جامد، اتكالي، فاقد للمبادرة ومغيب للحرية الفردية، أما مجال نشاطه فضيق رغم رحابة أفق التفكر، ضمير يقزم إمكانات الفرد ويصده عن الإبداع والتجديد إلا في حدود ضيقة جداً، لأنه يبني حواجز معنوية أمام العقل، بل أكثر من ذلك فهو تفكير نمطي عقيم لا يشجع الأنا على المبادرة، لأنه يخشى التفرد ويعتبره اغتراباً عن الذات الجماعية وتشويها لصورتها وتمرداً عليها... إن ما نعيشه اليوم في مجتمعنا نتاج لسلطة هذا الضمير المطلقة، لقد سقف أحلامنا وجعلها تتشابه، بحيث أصبح حلم الأغلبية هو امتلاك سكن لائق وسيارة ومبلغ مالي لعوادي الدهر، وقليل من يفكر خارج هذا النطاق. الجل يجري وراء تدريس الأبناء في مدارس جيدة لا من أجل المعرفة، بل من أجل التفاخر بالنتائج، أصبحت نتائج الأبناء هي من تحدد قيمتهم، هذا ما جعل الأطفال مجرد دمى في يد مجتمع أقبر أحلامهم، وأجهز على حقهم في اللعب، وفي استلذاذ طعم طفولتهم، وحول ذواتهم المبدعة إلى أرقام، وقليل من أضحى يهتم بتوجهاتهم، رغباتهم، سعادتهم، وهنائهم النفسي والروحي. إنه مجتمع أناني حولهم إلى أشياء في يد الآباء، وحول الآباء إلى مجرد أسماء مختلفة تمثل شخصية واحدة لا أثر للتفرد فيها. فالتفرد هو الحل وهو الأصل في الطبيعة البشرية التي تهوى التمرد، وبواسطته سيتمكن الفرد من ممارسة حريته الفكرية، أي يعيش متمفصلاً عن الجماعة، ذو شخصية فريدة، وممتلك لأهداف وأحلام ورغبات خاصة. على كل فرد أراد التخلص من سوط المجتمع المسلط عليه وبيده على أبنائه أن يسعى لفردنة فكره. أعلم أن المهمة لا تعدو سهلة لكنها ليست مستحيلة، إن الثورة على الضمير الجمعي السالب والسلبي هي السبيل الوحيد لتحرير الذات من قبضة الجماعة، ومن كل التأثيرات المجتمعية التي تكبل الإبداع. فكسر الأغلال المفروضة على التفكير الفردي هي أساس فكر إنتاجي، واع، مستقل، ومدرك لعورات المجتمع، فكر ينزع ربقة العبودية على التفكير الفردي ويجعله ينظر للوجود بعين العقل والمنطق لا بعين الجماعة. أكيد أن هذا سيولد في البداية ردوداً غريبة، لكن الغريب اليوم سيصبح فيما بعد مألوفاً، فأغلب الإنجازات في تاريخ البشرية كانت عبارة عن مبادرات فردية غريبة انطلقت من ذاتها إلى المجتمع وليس العكس.
مشاركة :