أكد أدباء سعوديون غياب النقد الأدبي عن ساحتنا الثقافية، لكنّ هذا الغياب يعود بحسب هؤلاء الأدباء إلى أسباب كثيرة، إذ يلحظ الشاعر عيد الحجيلي أنّ راهننا الأدبي وساحتنا الثقافية يشهدان قلة أو ندرة الدراسات النقدية وانصراف النقاد عن المراجعات النقدية المواكبة للإصدارات الإبداعية الشعرية والسردية إلى مناوشة الشأن السوسيوثقافي، ومجادلة الواقع المعيش واهتماماته ومتغيراته، وإفرازاته الإبداعية المتباينة، وطرائقها الفنية العديدة بآلياته الرقمية والافتراضية على مبعدة من الوسائل التقليدية القديمة التي كانت مضماراً فسيحاً للمراجعات النقدية والمساجلات الفنية؛ وكانت تلك الوسائل ذات سلطة معرفية فارزة، وهيبة مؤسسية تنعكس على ما تحتويه، وتمنحه الرّواج والسيرورة والحضور المُبجَّل.ويؤكد الحجيلي أنّ هذه السلطة تراجعت، وتلاشت تلك الهيبة في ظل واقع جديد لا يعنى بالرصانة، ويكرّس الشعبي واللحظي العابر، ويزاحم فيه الهامشُ المتنَ ويكاد يملي عليه ما يريد لأسباب، منها: غروب المجلات الأدبية، والصحف الورقية، والملاحق الأدبية، وانصراف القراء عنها، إضافة إلى سبب يتعلق بالدراسات النقدية ذاتها، التي تحمل في كثير من نماذجها بذرة اضمحلالها الفني، ودواعي الزهد فيها، والنفور منها، والابتعاد عنها، فلم يحرص عليها - كما كان سابقاً - المبدع، ولم يحفل بها القارئ، في زمن لا يفصل بين ما يكتبه المبدع ويتلقّاه القراء سوى نقرة زر صغير سيظل - ما رفّ حرفٌ وتنوّدتْ عبارة - رهن مشيئة المبدع، وطوع قبح إنتاجه أو جماله.ويرى الحجيلي أنّ النقد والتنظير لا يخلقان في كل العصور مبدعاً ولا يعلّمان الإبداع ولذلك لم يستطع الناقد الذي يُعلّم المبدع أحيانا أن يكون مبدعاً فالمبدع الذي يقع في أسر نظرية نقدية محددة وينظر إلى الناقد بصفته مُعلِّماً لا يمكن أن يكون مبدعاً ذا قيمة عالية؛ فقد يسهم النقد في إشاعة مذهب فني معين، وينافح عنه ويروّج له، لكن لا يمكنه التنبّؤ به، أو خلقه أو التنظير المسبق له.فيما يقرّ القاص محمد علي علوان بأنّ النقد لم يعد يواكب الإبداع الذي ملأ الساحة لأنّ دور النقاد المعوّل عليهم انحسر في إبداء الرأي على الأقل في المتميز شعراً أو سرداً، ويرجع علوان هذا التراجع أو الانحسار إلى أسباب، منها: ضعف المتابعة، التي اكتفت بالتلميح بحسب المساحة المتاحة في (تويتر)، وهي غير كافية على الإطلاق؛ لأنها قلصت دور الناقد الذي لا بد أن يكون في مجلات تعتني بالنص، إضافة إلى اتجاه كثير من النقاد إلى كتابة السيرة الذاتية، ونسيان دورهم الإبداعي الذي كان المبدع ينتظره منهم. ويضيف: العمل الثقافي يرتكز على تتبع الإبداع ودراسته بشكل علمي وموضوعي؛ لأنّ الناقد قد يقود المبدع الجاد لتجاوز الأخطاء في نصه شعراً أو سرداً، فالناقد الجاد يقوم بهداية المبدع لآفاق واسعة، وخلق مناخات متعددة، وهو في جميع الأحوال يضيء للمبدع الطرق المتعددة؛ لأن حالة الكتابة تسوق المبدع للتركيز على خلق العمل وهي خاصة به، ثم يأتي دور الناقد الذي يقوّم النص سلباً أو إيجاباً.ويرى علوان أنّ وجود الناقد الحقيقي ضرورة تخلق روح المنافسة بين المبدعين، واستغرب من دور الجامعات التي تملأ الوطن بكثرتها، ومن المؤكد أنّ هناك الكثير من الضالعين في العلوم الإنسانية التي تهتم بالأدب شعراً ونثراً ومسرحاً لكن للأسف لا نجد لهم نشاطاً في هذا الشأن.الناقد والروائي محمد الحميدي يرى أنّ التصفيق وإظهار الإعجاب، أو كلمات من قبيل «أعد - أحسنت - بوركت - صح لسانك»، إنما هو نقد انطباعي، ربما تطور على يد الكاتب إلى «تناص» مع العمل الإبداعي، عبر الأخذ منه أو الإضافة إليه؛ كما هو حال المعارضات الشعرية، التي لها حضور واسع في البيئة الثقافية، مقابل ذلك يوجد نقد أكاديمي يُمارَس في الجامعات، وبه يحصل الأساتذة على الدرجات العلمية، وهذا النوع لا يصل غالباً إلى المهتمين؛ لسببين، الأول: صعوبته وحاجته لتأسيس مُسبق. الثاني: ضعف تواصل الجامعة مع الجمهور.ويؤكد الحميدي أنّ تأثير النوعين لا يكاد يُذكر، فالبيئة بحاجة لناقد «تطبيقي»؛ يجيد رصد المشهد وقراءة الإصدارات، مع امتلاكه لثقافة نقدية «نظرية»، تُمكِّنه من التأثير فيها، وهؤلاء قليلون جداً، وأصواتهم لا تصل، فتأثيرهم يظل محدوداً، ويستشهد الحميدي بما قاله صفي الدين الحلي، وهو من شعراء القرن الثامن الهجري، مبيناً أهمية النقد: (والشِّعر كالتِّبر يخفَى حين تنظرُه / عينُ الغبيّ، ويغلو حين يُنتقَد)، فلا حياة للنصوص الإبداعية، بغياب عين النقد، التي تكتشف الجمال، وتقرأ ما بين السطور وما خلفها، فتعطيها قيمتها الحقيقية؛ بتمييزها عن الكتابات «الشبيهة بالإبداع»، المنتشرة اليوم، خصوصاً مع انفتاح الجمهور على برامج التواصل، فالكثير من الكتابات الواردة «غير ناضجة»، ولا تلتزم «قواعد الفنون»، فهي «بلا قيمة» فعلية، رغم أنها قد تحقق نجاحاً وانتشاراً على مستوى الجمهور. هذه «الفوضى» تسبب «تشويشاً» يُضيع صوت الناقد حينما يقارب الأعمال الإبداعية المتميزة.ويضيف الحميدي: تكمن أهمية النقد في القيمة التي يضيفها إلى العمل الإبداعي، إذ لا يمكن للنصوص أن تنمو في أرض مالحة أو صخرية، بل هي في حاجة لمن يتعهدها بالرعاية والاهتمام، وهو ما يقوم به الناقد، حيث العين التي تكتب، لا تحسن رؤية وتقدير ما كتبت، لذا تحتاجُ عيناً خبيرة، تجيد تحديد «مواطن الخلل»، واكتشاف «أماكن الجودة»، مع اقتراح «حلول وبدائل»، فهذه هي القيمة الفعلية للنقد، ودونها سيتحول إلى «لغو» و«كلام فارغ».فيما يرى الشاعر والمترجم عبدالوهاب أبو زيد أنّ هذا التساؤل مزمن، وربما كان أبدياً ملازماً لطبيعة العلاقة الثنائية التجادلية بين الإبداع والنقد، وذلك لسبب بسيط ومنطقي هو غزارة المنتج الإبداعي من جهة وكثرة «المبدعين» مقابل قلة عدد النقاد أو انصراف كثير منهم لما يسمى الدراسات الثقافية والنقد الثقافي أو حتى كتابة النص الإبداعي، بمعنى تحولهم من معسكر النقاد إلى معسكر المبدعين، ويضيف: الشكوى الدائمة على لسان المبدعين من انصراف النقد عن إنتاجهم الإبداعي تعكس ضمناً أهمية مفترضة ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخطاب النقدي بطبيعة الحال، وهو أمر أقرب إلى الصواب، لحاجة المبدع لمن يحتفي بنصه ويلتفت إليه ويبدي رأيه حوله حتى يغالبه الشعور بأنه يخاطب الفراغ ويصرخ في وادٍ لا رجع للصدى فيه، ويلفت أبو زيد إلى الطرافة في الأمر وأنّ المبدع الذي بح صوته من كثرة المطالبة بضرورة مواكبة النقد للإبداع، وحين يتناول ناقد ما نصوصه تناولاً سلبياً، تراه يتذمر ويمتعض ويردد عبارات من مقام أنه لا يكتب ليرضي النقاد وأنه لا يعبأ بآرائهم، فالنقد الذي يريده أغلب المبدعين هو النقد المدائحي التبجيلي، وإن لم يصرحوا بذلك ولم يعترفوا به، أما إن كان خلاف ذلك فلا حاجة لهم به ولا ضرورة لوجوده أصلاً.ويرى أبو زيد أنّ النقد ضروري للمبدع، ولا غنى له عنه، سلباً وإيجاباً لكي يعرف أين يقف، وكيف يبدو في عيون الآخرين، وبالمقارنة مع الآخرين من أقرانه، فالكاتب بصفة عامة، وهو بطبيعته يطيل التحديق في مرايا ذاته، بحاجة ماسة لكي يرى صورته في مرايا الآخر.< Previous PageNext Page >
مشاركة :