منذ بدايات الوجود البشري في شبه الجزيرة العربية كان الترحال مساوياً في الأهمية والتأثير للاستيطان. فصحاري الجزيرة الشاسعة لم تكن في الغالب مكاناً مريحاً وكافياً بموارده لمن أراد الإقامة. الهجرات السامية القديمة أكدت ذلك، مثلما ظلت تؤكده حياة الترحل البدوي طوال التاريخ وصولاً إلى عصرنا. بل إن من عاشوا حياة يمكن وصفها بالاستقرار لم يكن استقرارهم في معظم الأحيان سوى استقرار نسبي، استقرار مؤقت أو يعتمد اعتماداً حيوياً على الترحل، على فئات تترحل سواء من البادية التي تتسم حياتها بالتنقل أو من المستقرين الذين يرحلون في طلب العيش لهم ولغيرهم. ومع أن طلب العيش كان الباعث الرئيس للترحال في صوره كافة، فإن التجربة الإنسانية وتطور الحضارات يؤكدان لنا أن ذلك الترحال كان أيضاً عاملاً رئيساً وراء نتائج جانبية غير توفير العيش. كان الترحال سبباً في تلاقح الثقافات وبناء الحضارات من حيث هو اتصال بين جماعات بشرية مختلفة ذات احتياجات متباينة تارة ومتشابهة تارة أخرى. صحيح أن كثيراً من الترحال لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج باهرة أو سريعة في التطور الثقافي، لكن منه ما كان وراء كثير من التحولات التي تطرأ على المجتمعات. فالسفر أياً كانت بواعثه محرض على الاكتشاف من حيث هو مصدر للمعلومة الجديدة. والمسافر بحثاً عن الرزق أو المتاجرة لا يعود ومعه تجارة أو زاد فحسب وإنما يعود ومعه مشاهدات ومعلومات عن أناس مختلفين وبلاد مغايرة وعادات جديدة. بل إن التجارة والزاد كثيراً ما تكون أدوات حضارية جديدة على البيئة التي عاد إليها المسافر. يتضح كل ذلك بشكل خاص في المناطق التي تجعلها جغرافيتها معزولة بالضرورة نتيجة لصعوبة السفر وقلة الموارد مثل منطقة نجد، فمثلما أن مطراً نادراً يمكنه أن يترك أثراً واضحاً على الحياة، يأتي الاتصال بالعالم الخارجي ليترك تأثيراً بيناً على الحياة الاجتماعية، أو هكذا ينبغي أن نتوقع. والتأثير لا يعني التقبل بالضرورة، وإنما هي ردود الفعل التي تنتج عنه سواء بالقبول أو الرفض. فحتى الرفض نوع من الاتصال، لأنه إدراك لوجود المختلف وتفاعل معه على نحو ما. وإذا كانت التركيبة الثقافية للمنطقة أدت في الغالب إلى التحفظ تجاه الاتصال بالآخر المختلف حيثما كان، فإن تفاعلات إيجابية حدثت ولابد أن تحدث لاسيما في العصر الحديث حين وجدت المنطقة ككل نفسها على صلة بمتغيرات عالمية كثيرة ابتدأت بنشوء المملكة العربية السعودية كقوة سياسية فاعلة في المحيط العربي والإسلامي ثم العالمي واستمرت مع تواصل الأحداث المحيطة وتطور العلاقات السياسية والاقتصادية وغيرها. في إحداث التواصل بين وسط الجزيرة العربية والعالم، لعب الرحالة الغربيون دوراً ملموساً ومشهوراً لدى الجميع. فالرحالة الأوروبي حمل معه اختلافه ونقل اختلاف المنطقة إلى بلاده. لكن التفاعل ظل محدوداً نتيجة طبيعية لذلك الاختلاف نفسه. فلم يكن من السهل فهم الغريب ولم يكن سهلاً على الغريب فهم المنطقة وثقافتها، وإن كانت المهمة الأخيرة أسهل في كثير من الأحيان من الأولى. التواصل الأكثر تأثيراً جاء نتيجة احتكاك أبناء المنطقة أنفسهم مع العالم الخارجي، العربي بشكل خاص، حين ارتحلوا إليه وظل بعضهم يذهب ويعود حاملاً أخبار العالم ونتاجه إلى بلاده وأهله حتى أن بعضهم اختار الإقامة والتواصل عن بعد. قام بذلك أفراد مستقلون وقامت به جماعات متكاتفة. ولاشك أن أبرز الجماعات المستقلة وأكثرها تأثيراً في الفترة المشار إليها، فترة نشوء المملكة ومراحل نموها الأولى، هي جماعة العقيلات. إن شهرة العقيلات تتضارب بوضوح مع نقص واضح في دراستهم وتقويم الدور الذي لعبوه في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السياسية في منطقة نجد عموماً ومنطقة القصيم بشكل خاص. ما ألف حولهم قليل قياساً إلى أهميتهم فضلاً عن أنه في المجمل لم يتعمق في استجلاء دورهم، في تأثرهم وتأثيرهم. ما كتب حول الموضوع كان في الغالب معلومات تأسيسية وتوثيقية عامة مثل ما كتبه ابراهيم المسلم رحمه الله، أو يقتصر على جوانب محددة وإن تعمق فيها، كما هو الحال في الدراسة الأشهر والأغنى بالمعلومات حول الموضوع للباحث السوداني عبدالغني ابراهيم، أي «نجديون وراء الحدود»، فقد تمحورت حول البعدين السياسي والاقتصادي لدور العقيلات. لكن دراسة ابراهيم لم تتضمن نظرة كافية إلى الجانبين الاجتماعي والثقافي باستثناء لمحات قليلة سأشير إلى بعضها. ولعل النقص في مصادر التاريخ الشفوي يجعل من الصعب التعمق في معرفة الجانبين المشار إليهما نتيجة لرحيل معظم أفراد ذلك الجيل. ولا شك أن هذا نقص كبير من الأولى أن تسعى المؤسسات السعودية إلى استكمال ما يمكن استكماله منه على ما في ذلك من صعوبة تتزايد يوماً بعد يوم. العقيلات جماعة شكلت جزءا من تاريخ المنطقة ونموها على مختلف الأصعدة وحري بمراكز البحث والمؤسسات الثقافية أن تسعى إلى توثيق ذلك الجزء بالطرق العلمية الصحيحة. هذا مع التقدير للجهود التي بذلت وتبذل الآن سواء في ما يكتب أو يوضع على الشبكة العنكبوتية من مواقع ومعلومات. من المعلومات التي تضمنها كتاب «نجديون وراء الحدود» فيما يتعلق بالجانب الثقافي قول المؤلف: «كان الكثير من وجهاء عقيل يعرفون الأجانب ويميزونهم بهوياتهم وكانوا أكثر معرفة بالانكليز عن غيرهم حتى أن بعضهم كان يعرف من وزراء بريطانيا العظام من أمثال بالمرستون وزرائيلي [هكذا ويقصد دزرائيلي] ...» ثم يضيف مستشهدا بكلام للرحالة دوتي: «من الثابت لدينا أن العقيلات كانوا من أوفر رجال نجد ثقافة وأكثرهم سعياً وراء المعرفة. يحكي أحد الرحالة من الذين توثقت صلاته بعقيل، فيقول إنهم يستعملون المعاجم ويقرأون معلقات الشعر الجاهلي ... يتحدث البعض منهم اللغة الإنكليزية ويوقع اسمه بحروف لاتينية على الفواتير المكتوبة بالإفرنجية كما يعرف بعضهم اللغة الهندوساتنية [هكذا، ويقصد على الأرجح الهندوستانية].» في غياب التاريخ الشفوي المباشر يظل من المهم عند دراسة هذه الفئة من المجتمع في منطقة القصيم بشكل خاص أن يعطى للوثائق المتوفرة وللشهادات الشخصية اهتماماً كافياً، فيدعى إلى مثل هذه الملتقيات من لديه معلومات أو انطباعات ذات صلة ويمكن أن تثري البحث. ومع أنني أبعد ما أكون عن الانتماء إلى أهل الشهادات في مثل هذا المجال، فقد وجدت أن علاقتي بأحد أفراد العقيلات، وهو والدي رحمة الله عليه، تمثل مادة يمكن التوقف عندها على أمل الخروج ببعض المعلومات والرؤى التي يمكن أن تسهم ولو بشكل متواضع ومحدود في إضاءة بعض العتمة المحيطة بتلك الفئة المهمة في تاريخ المنطقة والمجتمع السعودي بل والعربي بشكل عام. وقد ساعدني في ذلك ما تركه غفر الله له من رسائل يتصل معظمها بعمله التجاري في سكاكا بمنطقة الجوف حيث عمل سنوات طويلة وظلت تربطه هناك صلات قوية بمعارفه وأصدقائه من عقيل لاسيما من أقام منهم في العراق والشام من أمثال محمد الدخيل في بغداد وابراهيم العلي المنيف والد الكاتب عبدالرحمن منيف في عمان رحمة الله عليهم جميعا.
مشاركة :