كما هو حال أفراد ذلك الجيل بل ومعظم الجيل الذي تلاه من أسناني ومن يكبرني قليلاً، لا نعرف تاريخاً دقيقاً لميلاد الوالد عبدالرحمن البازعي، فلم تكن الثقافة المحلية ترى أهمية لذلك، وكانت النتيجة أنه يؤرخ لميلاد الناس بأنه كان قبل المعركة الفلانية أو بعد الحدث الفلاني. ذكر إبراهيم المسلم في كتابه «رجال من القصيم» أن الوالد من مواليد عام 1314ه ولعله قدر ذلك تقديراً، فالتاريخ يبدو معقولاً بحكم تاريخ وفاته رحمه الله عام 1394ه. (تناولت المقالة الماضية معلومات عامة عن العقيلات وعن اختيار والدي عبدالرحمن البازعي أنموذجاً، وتستكمل هذه المقالة ما سبقت الإشارة إليه) ككل شبان القصيم الباحثين عن الرزق في النصف الأول من القرن الهجري الماضي، انضم الوالد إلى العقيلات ثم انضم إليه فيما بعد بعض أبناء عمه الأصغر سناً (حمد وعبدالعزيز وصالح العبدالله البازعي) وقضوا شطراً من تلك الفترة المبكرة متنقلين في العراق والشام ومصر إلى أن توقف نشاط العقيلات بعيد الحرب العالمية الثانية مما أدى إلى تفرقهم ثم استقرار من بقي منهم في أماكن متفرقة داخل المملكة وخارجها. وكان أن اختار الوالد والعم حمد ممارسة التجارة في مدينة سكاكا. ظل الوالد هناك بعد تركه العمل التجاري ودخوله العمل الحكومي لبعض الوقت حتى أواخر الثمانينات الهجرية ليستقر في الرياض ويتوفاه الله فيها. أما العم حمد فقد بقي في منطقة الجوف وكان أحد أهم مشروعاته التجارية جلب الكهرباء إلى سكاكا لأول مرة، وأذكر أنني رأيت الإضاءة وهي تدخل شوارع ومنازل مدينة سكاكا لأول مرة في عهد الخال الأمير عبدالرحمن السديري رحمه الله، وللمرء أن يتخيل أثر الكهرباء على الحياة بشكل عام والنشاط التنموي بشكل خاص. استرعى انتباهي في مرحلة مبكرة اهتمام الوالد بالأحداث السياسية ومتابعته الدقيقة لها عبر الراديو وذلك في فترتي الثمانينيات والتسعينيات الهجرية (الستينيات والسبعينيات الميلادية) وهي الفترة التي عرفته أثناءها لكوني من أوسط الأبناء من حيث العمر. وعرفت فيما بعد أن تلك المتابعة تمتد إلى فترة أبعد بكثير، فقد كان طوال فترة إقامته بالجوف تاجراً معروفاً على اتصال بأصدقاء وعملاء في البلاد العربية المجاورة يخبرونه بالتطورات السياسية لاسيما الحرب العالمية الثانية. كنت أندهش في صغري لهذا الاهتمام وأسأل أخي الأكبر مني، عبدالله، عن سر هذا الاهتمام فيجبني بأن الأمر أشبه بمتابعة قصة أو حكاية ومعرفة ما يستجد فيها. لكني كنت أندهش أيضاً لاهتمام أخي الذي كان في المرحلة الإعدادية، لأتبين فيما بعد أن بيئة المنزل كانت تحثه على تطوير ذلك الاهتمام. ويمكن ملاحظة ذلك في البرقية المرفقة صورتها والمرسلة إليه في 4 شوال 1463 ه ، الموافق 23 يوليو 1944 والتي تشير إلى انكسار الألمان على ثلاث جبهات. ويلاحظ أن البرقية لم ترسل لهذا الغرض وإنما للتهنئة بعيد الفطر أولاً ثم لإشعار الوالد ببعض التطورات التجارية والمطالبات المالية من أسعار وحقوق للناس، لتأتي الأخبار السياسية بعد ذلك على شكل استدراك يؤكده حجم الخط وعدم العناية بهذه الجزئية من البرقية وقد اعتذر المرسل عن ذلك. الوعي السياسي المتنامي يصعب تفسيره دون العودة إلى الانفتاح المبكر على العالم الذي عرفه العقيلات في أسفارهم وتجاوزوا به ضيق الاطلاع في بيئتهم الأصلية، فليس من المتصور تحقق ذلك دون رؤية عالم مختلف، عالم أوسع وأكثر تعدداً وانفتاحاً. ومع أن ذلك الانفتاح لم يحدث بطبيعة الحال لكل من سافر سواء مع عقيل أو غيرها، فإن من المؤكد أنه كانت لدى البعض قابلية للتفاعل الذهني والمعرفي مع ما شاهدوا واكتشفوا في بلاد مغايرة قليلاً أو كثيراً لبلادهم ومنطقتهم تحديداً. لقد تعامل العقيلات مع أجناس وأديان ومذاهب مختلفة، عرفوا الأوروبي والمسيحي واليهودي وتعاملوا معهم على أسس تجارية تتضمن احترام الحقوق والواجبات. ففي إحدى الرسائل التي احتفظ بها الوالد رسالة من محمد الدخيل مرسلة من بغداد عام 1360ه/1941م تتضمن قائمة بسلع أرسلت للعم حمد العبدالله البازعي رحمه الله وتشير إلى أن بعض المبالغ كانت «دلالة» أو «أتعاب» ليهود. لاشك في أن مثل هذا الانفتاح أحدث نقلة ذهنية ثقافية لدى تلك الفئة أو بعض أفرادها في وقت كانت فيه منطقة نجد ومنها القصيم تكاد تنغلق عن العالم، لاسيما على المستويين الاجتماعي والثقافي، ولنا أن نتخيل كيف تفاعل مثل ذلك الاحتكاك والانفتاح على المختلف في أذهان أولئك النجديين وهم يعودون إلى بلادهم ليروا واقعاً مختلفاً. هل أبالغ إن قلت إنه لا يختلف كثيراً عن تفاعل الجيل الأول من مبتعثي المملكة إلى الخارج مع البيئات الخارجية ثم مع بيئاتهم المحلية؟ لقد كان من الطبيعي أن تكون ردة الفعل الأولى هي المقارنة واكتشاف الاختلاف ثم، في حالات كثيرة، الرغبة في التغيير. لم يتلق الوالد رحمه الله تعليماً يختلف عما تلقاه معظم أبناء جيله في الكتاتيب من حفظ للقرآن الكريم ومعرفة بعض الأمور الدينية التأسيسية، لكنه استدرك الكثير بالسفر والاطلاع، الأمر الذي يؤكده ليس وعيه السياسي المبكر وتحليلاته التي اشتهر بها في كبره للأوضاع فحسب وإنما اهتمامه المبكر بتعليم أبنائه وكذلك بناته عندما تيسر لهن ذلك. هنا أتحدث عن إخوتي وعن نفسي واستفادتي من ذلك الوعي المبكر لدى الوالد حين أخذني بنفسه إلى المدرسة السعودية في شارع الريل بالرياض ليدخلني في السنة الأولى حوالي العام 1378ه 1959م ويمضي معي بعض الوقت في الصف لكي أطمئن وأبقى في المدرسة. ثم لا أنسى حرصه على مساعدتي في المنزل على القراءة وأنا في الصف الأول، فكان يحضر صحيفة محلية لنتهجأ العناوين معاً، الأمر الذي بقي أثره المتواصل في حبي للقراءة وتحولها إلى حياة بأكملها، وحين أعود إلى التأمل في ذلك أجده من اللافت فعلاً أن يهتم رجل بالتعليم وهو الذي لم يتلق تعليماً يذكر. لكنها مدرسة الحياة والوعي المبكر بالعالم والمشاهدة العيانية لتطور البلاد المحيطة وحاجة بلادنا الملحة لجيل أكثر تعليماً وأقدر بالتالي على النهوض بمتطلبات التنمية. لم يكن ذلك بالتأكيد ما تميز به والدي وحده وإنما هو ما اتسم به جيل ممن شكلوا قنطرة أسهمت في تنمية الوطن على النحو الذي أشار إليه الملك عبدالله رحمه الله في كلمته حين زار منطقة القصيم، إذ أشاد بالعقيلات ودورهم في بناء الوطن. لقد كان للعقيلات دور بارز في تنمية علاقات تجارية لعبت دورها في مسيرة التحضر ليس في القصيم وحده وإنما في مناطق أخرى من المملكة، ويذكر في هذا الصدد أن أحد أفراد ذلك الجيل، ربما الأصغر سناً، وهو ابراهيم المسلم رحمه الله، لم يحقق مستوى علمياً مرموقاً فيصبح مؤلفاً ومرجعاً حول ذلك الجيل وتلك المرحلة فحسب وإنما أسهم عملياً أيضاً في التنمية الثقافية حين افتتح مكتبة رائدة في بريدة في سبعينيات القرن الهجري الماضي تتيح للراغبين الاطلاع على الصحف والمجلات. ذلك بعض ما يستدعي المزيد من الدراسة والتحليل لدور العقيلات في التنمية الاجتماعية والثقافية للمنطقة، فقصتي لابد أنها قصة كثيرين من أمثالي، وابراهيم المسلم أنموذج مميز لكنه بالتأكيد ليس الوحيد. فما أحرانا بالاهتمام بهذه الجوانب من مساهمة جيل ترك بصماته في كل مكان.
مشاركة :