عندما سحبت الولايات المتحدة الأمريكية آخر جنودها من فيتنام في شهر مارس من سنة 1973 شاهدت أحد كبار المسؤولين الممثلين لفيتنام الشمالية في مدينة سايجون وهو يقدم لهذا الجندي صورة صغيرة للزعيم هوشي منه كهدية تذكارية قبل أن يمتطي الطائرة التي ستعيده إلى دياره. يومها تساءلت عما إذا كانت فيتنام الجنوبية التي كتبت عنها كثيرا ستكون قادرة على الصمود بدون الأمريكيين الذين ظلوا يسندونها على مدى أعوام طويلة. أشك أن تقدم حركة طالبان أي هدايا لآخر الجنود الأمريكيين الذين سينسحبون الى الولايات المتحدة الأمريكية كما أنني أتساءل عن المدة التي ستظل خلالها الحكومة الأفغانية الحالية صامدة في وجه حركة طالبان. في فيتنام، اضطررت إلى المغادرة على متن طائرة مروحية من السفارة الأمريكية في سايغون بعد عامين وشهر فقط من مغادرة آخر جندي أمريكي, ذلك أن جيش فيتنام الشمالية كان يوشك أن يستولي على عاصمة فيتنام الجنوبية، فكم ستصمد العاصمة الأفغانية كابول بعد انسحاب آخر جندي أمريكي؟. لقد بدأت الانتقادات والاتهامات تتردد في واشنطن فيما يستعد الرئيس جو بايدن لسحب الجنود الأمريكيين من أفغانستان بعد عشرين سنة من الجهود التي ذهبت سدى، ردا على هجمات 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية. على غرار فشلها الذريع في فيتنام، ورغم أنها أنفقت ما لا يقل عن ترليوني دولار وإرسال مئات الآلاف من الجنود إلى أفغانستان فإن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت في بناء حكومة قابلة للحياة في كابول وقادرة على الصمود في وجه حركة عدوة مصممة على مواصلة هجماتها. لقد سمعت الجنرالات والمخططين الأمريكيين في كل من فيتنام وأفغانستان – الجنرال وستموريلاند في فيتنام وديفيد بترايوس في أفغانستان – وهما يقولان لي إن الحملات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة ستنجح في قلب اتجاه الأحداث ودحر حركة التمرد وتكريس الديمقراطية. ما من مسؤول أمريكي قابلته في العاصمة كابول إلا حدثني مستخدما نفس الخطاب الذي كان سائدا بين القوات الأمريكية في فيتنام. فقد كان الأمريكيون يعتقدون أن السنوات ستتحول إلى عقود من الوجود العسكري وأنهم سينجحون في نهاية المطاف في تهدئة الأوضاع في فيتنام وتسويق حكومة في صندوق في مجتمع غير مهيئ أصلا لإقامة مؤسسات ديمقراطية. نفس هذا السيناريو هو الذي يتكرر في القرن الحادي والعشرين في أفغانستان. هناك بطبيعة الحال العديد من الفوارق الهامة ما بين فيتنام وأفغانستان. ففي فيتنام خسرت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 50 ألف جندي فيما فقدت قرابة ألفين وأربعمائة جندي في عمليات قتالية في أفغانستان. كذلك لم يتم إرسال صغار المجندين الجدد إلى أفغانستان. قد تصمد كابول أكثر من سايجون وذلك إذا ما واصلت سلطات واشنطن دعمها بالأسلحة والذخيرة. لقد قطعت أمريكا مساعداتها عن فيتنام الجنوبية وتركتها تواجه مصيرها المحتوم. لم يكن هذا هو سبب خسارة الولايات المتحدة الأمريكية للحرب في فيتنام. لذلك يظل السؤال يطرح: لماذا تكبدنا الهزيمة في حربين تفصل بينهما أجيال من الزمن؟. هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسر فشل الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها في فيتنام وأفغانستان. يتمثل السبب الأول في جعل الأطراف الحليفة لنا في هذين البلدين تعتمد بشكل كامل على قوتنا الجوية ومروحياتنا ومدفعيتنا وأسلحتنا الرشاشة، فيما كان أعداؤنا يواجهوننا باعتماد تكتيك حرب العصابات التي امتازوا فيها. يتمثل السبب الثاني في الفساد الذي قوض جهودنا الرامية إلى بناء قدرات حلفائنا في كل من فيتنام وأفغانستان، وهو ما أضعف ثقة السكان المحليين في الحكومة وبقية المؤسسات المنبثقة عنها وهو ما لعب دورا سلبيا جدا في فشل الولايات المتحدة الأمريكية في حربها التي عادت بالوبال عليها. أما السبب الثالث والأكثر أهمية فهو يتعلق بحلفائنا في كل من فيتنام وأفغانستان والذين لم ينجحوا في التخلص من الصورة التي جعلت منهم مجرد بيادق ودمى تقاتل لصالح أطراف أجنبية, فيما كانت قوات الفيتكونج في فيتنام وحركة طالبان تصور نفسها على أنها قوات وطنية حقيقية تقاتل من أجل تحرير بلديهما من الاستعمار. في أفغانستان مثلت الدعوة إلى الجهاد لتخليص البلاد من الأجانب حافزا قويا وذلك منذ الانسحاب الكارثي للقوات البريطانية من كابول في سنة 1842 والانسحاب السوفييتي عبر نهر أمو داريا في آسيا الوسطى، في انتظار انسحاب القوات الأمريكية وهي تجر أذيال الخيبة يوم 11 سبتمبر 2021 بعد أن تزيل خيامها وترحل. { صحفي، مؤلف كتاب «مذكرات مراسل صحفي أجنبي».
مشاركة :