إن الهدف من الكتابة عن رواد التنوير من مختلف الأمم هو إيضاح أن البداية لتحديث أي مجتمع تكون بأفكار ريادية خارقة مغايرة لما هو سائد، فإذا اقتنع بها قادة الفعل واستجابوا لها استجابةً إيجابية كافية تَغَيَّرتْ بذلك طريقةُ التفكير واتجاه حركة المجتمع وتبدلت مسارات النشاط وتحددت الرؤية لما يجب فعله وإنجازه.. تحديث المجتمعات وتنميتها يقتضي تبديل اتجاه السير وتغيير طريقة التفكير وإعادة ترتيب منظومة القيم وتغيير محاور الاهتمام، فلا يمكن أن ينمو أي مجتمع بنفس الأفكار والتصورات والاهتمامات السابقة للتحديث ولكن طبيعة العقل البشري والكيفية التي يتكوَّن بها تجعله يرفض بشكل تلقائي أية أفكار أو تصورات مغايرة لمعاييره المستقرة، لذلك كان التنوير هو الشرط الأول لبداية التحديث في أي مجتمع وأمامنا نموذج اليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها لكن النموذج الأساسي هو النموذج الأوربي سواء على مستوى القارة بأجمعها أم على مستوى كل مجتمع بمفرده، ومن قراءة التاريخ الأوربي يتضح أنه رغم أن ألمانيا وكل أوربا تعرَّضتْ لهزات ثقافية قوية وعميقة متعاقبة منذ اختراع المطبعة التي وفَّرت الكتب للعموم ومروراً باكتشاف أمريكا بمغامرة كولومبس وما أحدثه ذلك من تساؤلات كثيفة وحادة ونظرية كوبرنيكوس عن موقع الأرض من المجموعة الشمسية وهي نظرية هزت العقل الأوربي، ثم انشقاق الكنيسة على يد مارتن لوثر وانفصال بعض الإمارات الألمانية عن الإمبراطورية المقدسة والفورة البريطانية في عهد اليزابيث الأولى وظهور شكسبير وفرانسيس بيكون وتوماس هوبز وغيرهم من الرواد الخارقين ثم ظهور ديكارت في فرنسا حيث هو المؤسس الفعلي للفلسفة الحديثة إلا أن التنوير بالمفهوم التاريخي المعروف قد ابتدأ في بريطانيا بفكر جون لوك وديفد هيوم وآدم اسميث وغيرهم ثم حصلت طفرة التنوير في فرنسا بجهود مونتسكيو وفولتير وديدرو وروسو وغيرهم فصارت فرنسا هي الأكثر تأثيرًا على كل أوربا وقد كان إشعاع التنوير الفرنسي على ألمانيا غامرًا وباهرًا... ثم ظهر في ألمانيا رائد التنوير المبدع المفكر ليسنق ثائرًا على هذا التقليد الأعمى لكل ما هو فرنسي مناديا بيقظة الوعي محليا وإدراك متطلبات التنوير والتحديث ذاتيًّا ثم مؤكدًا الأصالة الإبداعية البريطانية، فروَّج لشكسبير وغيره من أعلام الفكر والأدب البريطانيين، لقد أصر على ضرورة أن يخرج المجتمع الألماني من قوقعة التحجر المحلي وأن يتحرر من الذوبان في الفكر الفرنسي فالإحساس بالقدرة الذاتية على التحرك الحر هو أهم مقومات الانطلاق في التحديث لأنه في هذه الحالة لا يستمد طاقته من خارجه وإنما يستمدها من ذاته فهو واثق من نفسه ومن صحة مساره يستمطر المعرفة من كل الآفاق ولا يربط ذاته بتجربة واحدة من تجارب التحديث.. لقد أدرك ليسنق أن المجتمع لا يمكن أن يتقدم بنفس الأفكار والتصورات والمعارف السائدة فاستقل بنفسه عما هو سائد في ألمانيا سواء على المستوى الثقافي أو الأدبي أو التعليمي والأكاديمي فقاد أمته إلى تلك الوثبة العظيمة التي انجلت عن أعظم فلاسفة العصر: كانط وهيردر وفيخته وجوته وشيلر وهيجل ونوفاليس وشيلنق وأوقست شليقل وفردريك شليقل وشوبنهاور وغيرهم وقد تحققت هذه الطفرة بتأثيرات مجموعة من المؤثرات والعوامل، فكان ليسنق رائدا محركا بوصفه حامل راية التنوير وكان الانفتاح الثقافي والفكري والاجتماعي الذي قاده الملك البروسي المثقف المستنير فردريك الكبير قد هيأ المناخ العام لتقبُّل التنوير وقبل ذلك كان الفيلسوف العظيم ليبنتز قد سبق الجميع في ألمانيا ولكن ليبنتز كان فيلسوفا منظِّرًا ولم ينشغل بالتنوير المباشر بواسطة المسرح أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي التي تخاطب عموم الناس مثلما تخاطب المثقفين والسياسيين.. لقد كان ليسنق طليعة قادة التنوير أو حامل لواء التنوير في ألمانيا وهو مفكر أصيل التكوين بنى نفسه بنفسه باستقلال حر حيث ابتعد عن التأطير الأكاديمي فحين التحق بالجامعة اكتشف أنها قد تعطيه معلومات لكنها تستهلك وقته وتستنزف طاقته وتسلبه فرديته وتقضي على استقلاله فهي تعمق ما هو مألوف وتؤكد ما هو سائد إنها تركز على تقديم المستقر المتوارث لهذا فهي بشكل تلقائي تكون ضد التغيير وضد التنوير وضد التقدم لذلك انقطع ليسنق عن الدراسة معلنا أنها:لن تجعلني إنسانًافالخضوع الطويل للتأطير التعليمي هو في الغالب يسلب الفرد إمكانات التفكير المستقل لأنه يؤطره في مسارات تقليدية مطروقة فهو يُعِدُّ الدارسين للرفض التلقائي لما لا يتفق مع ما تأطَّروا به لقد اقتنع بذلك ليسنق فبقي طول حياته يتحاشى الخضوع فكرياً لأية سلطة ثقافية أو تعليمية أو اجتماعية أو سياسية ليس هذا فقط بل إن ليسنق يرى ضرورة الانتباه لما نقرأ حتى لو كان الكتاب المقروء من اختيارنا فلا يصح أن نستقبل كل ما نقرأ بالقبول بل يجب أن ننمي حاسة نقدية للتعامل مع ما نقرأ فالحاسة النقدية هي مفتاح التعلم الحقيقي فلا علم ولا تحقق من دون يقظة واستنفار وتحفُّز العقل النقدي الفاحص.. يتحدث جوته في الجزء الثاني من مذكراته عن الدور العظيم الذي نهض به ليسنق في تنوير المجتمع الألماني ويؤكد أنه فَتَح عقول المثقفين الألمان لكي ينتبهوا إلى سذاجة الجموع الغفيرة من الناس وقابليتهم للاستهواء والإغواء، فيقول جوته:ليسنق جعلنا نهزأ بسرعة التصديق عند البشرلكن علينا أن نتذكر أن استجابة الإنسان نفيا أو قبولا مرتبطة ارتباطا عضويا بمحتويات ذهنه من التصورات والمعلومات فكل مولود يتبرمج تلقائيا في طفولته بالتصورات السائدة في الأسرة التي تُرَبِّيه وفي المجتمع الذي ينشأ فيه فسرعة التصديق في كل مجتمع تكون محصورة بما يتفق مع ما هو متداول ومألوف وسائد فالناس يتقبلون بسهولة وسذاجة وربما بانجراف كل ما يتفق مع ما اعتادوا عليه ومقابل ذلك يرفضون التصورات والأفكار المغايرة رفضًا تلقائيا وربما يرفضونه بعنف، فيجب أن ننتبه إلى أن سرعة التصديق ليست على إطلاقها فالناس يتقبلون تلقائيا كل ما يتفق مع تصوراتهم المستقرة فما يتفق مع الثقافة السائدة يتم قبوله من دون تردد ولا مناقشة ويتم الالتزام به والتصرف بما يقتضيه مهما كان مضادًا لحقائق العلم، أما الأفكار والحقائق المغايرة للتصورات السائدة فيتم رفضها تلقائيا فما يصدقه الناس مثلا في ألمانيا بسهولة قد يرفضه الناس رفضا قاطعا في أي بلد عربي فكل ما له أساس في البنية الذهنية للفرد يتقبله بسهولة وقد يتحمس له أو يضحي بنفسه من أجله، وبعكس ذلك كل ما يتعارض مع ما هو مستقر في بنية الفرد الذهنية سيكون رفْضه تلقائيا أما ما هو محايد من المعلومات والأحداث فقد لا يهتم به أصلا وينساه بسرعة.. كل مجتمع يمثل تيارا عاما تحكمه وتسيِّره تصورات عامة عن العالم وكل فرد هو نقطة في هذا التيار وكما يقول لويس هال في كتابه (الأمم والناس):الناس يؤيدون أو يعارضون اسمًا لا يمكنهم أن يذكروا معناهإن الثقافات البشرية نابعة من التبرمُج التلقائي وليست قائمة على الدراسة والتحقق والعلم إنه تبرمُجٌ تلقائي يخالط النفس ويتحكم بالوجدان ويحدد معايير التعقل لذلك يكون أكثر الأميين أشد تمسكًا بالسائد من المتعلمين أو يتساوون في القبول التلقائي أو الرفض التلقائي، إن ما يعتبره الناس معقولا في مجتمع قد لا يكون معقولا في مجتمع آخر إذا اختلفت الثقافة فمعايير المعقولية تختلف باختلاف الثقافات بل وباختلاف الأفراد وهذه نقطة أساسية يجب أن ننتبه لها وأن تكون حاضرة دائما في أذهاننا أما المعقولية التي يمكن الاتفاق النسبي عليها فهي المعقولية العلمية ولكن ذلك يكون دائما محصورًا في دوائر العلم الضيقة المنفصلة عن تلقائية الفاعلية الثقافية أما في الحياة العامة فإن الناس حتى المتعلمون يبقون محكومين بما تبرمجوا به تلقائيا في طفولتهم وبالتعزيزات البيئية المستمرة.. لقد كان ليسنق سابقا لمجتمعه في رؤيته للعالم وللوضع الألماني وفي تطلعه الملح إلى توحيد الجسم الألماني الذي كان مفككا ومبعثرا بين عدد كبير من الإمارات الصغيرة الضعيفة فكان رائدًا في الدعوة إلى الوحدة الألمانية، لقد كانت أفكاره ممهِّدة لظهور بسمارك الذي وحَّد ألمانيا بالسياسة والدهاء وبالقوة معاً ثم جاء بعد ليسنق آخرون ليؤكدوا الحس القومي الوحدوي وكان في طليعتهم فخته صاحب (خطاب إلى الأمة الألمانية) ويقول جوته عن ليسنق:على أن الخطوة الأكثر حسمًا هي التي قام بها ليسنق حيث توصف الأهواء والأوضاع القائمة على الدسائس في الأوساط العليا وصفًا جارحًا مُرًّا وكانت هذه الأشياء جميعا تلائم روح العصر الثائر ملاءمة كاملةلم يكن ليسنق يكتب نصوصا تبقى محصورة بين عدد قليل من المثقفين ولكنه استخدم المسرح ليضمن وصول الأفكار مجسَّدة إلى عامة الناس وخاصتهم كان يستحضر التاريخ ويستخدم في مسرحياته الشخصيات التاريخية لتوصيل أفكاره إلى الجميع حية مجسَّدة ومتحركة ومتفاعلة وكما يقول جوته:وكان يثور جدل حامي الوطيس حين أعطى ليسنق الذي كان يحظى بالثقة الكبيرة الإشارة الأولى على ذلك في كتاباته المسرحيةويوضح جوته كيف أن بعض المتعلمين والكتاب لم يكونوا يدركون العمق ولا القيمة الإبداعية الاستثنائية لكتابات ومسرحيات ليسنق فيعتقدون أنهم يستطيعون أن ينجزوا مثله فيقول جوته:كان أولئك الذين هم أدنى فكرا وموهبة يعتقدون أنهم يستطيعون أن يفعلوا الشيء ذاته بل أكثر منهوهذه معضلة بشرية أزلية فأقل الناس حظًّا من القدرات الإبداعية هم الأقل إدراكا لقيمتها ووعيا بالخصوصية الشديدة التي تتميز بها.. ومع كل هذه المواجهة الصادمة التي نهض بها ليسنق في نقد الواقع وتعرية الأهواء وفي الدعوة إلى الانفتاح على كل الآفاق والوقوف ضد التعصب وضد الأفكار المتحجرة التي كانت سائدة في ألمانيا وضد السلوك الانتهازي فإن جورج لوكاش يرى في كتابه (تحطيم العقل) أن ليسنق لم يستطع أن يصرح بكل أفكاره فاضطر إلى إخفاء بعضها يقول لوكاش:لنفكر ببدايات الفلسفة الحديثة بمصير جوردانو برونو وفانيني وجاليليو كان للخوف من القمع مفاعيل هائلة وهذا الخوف يفسِّر مثلا الصمت الذي التزمه ليسنق حتى وفاته عن قناعاته السبينوزية.. صمْتُ ليسنق عن سبينوزيته أفسح المجال لتشويه تصوره عن العالم تشويها كاملاوينتهي لوكاش إلى القول:إن الشروط الاجتماعية تمارس سلطانها على المفكرين حتى أعمق قناعاتهم وحتى في طريقة تفكيرهم وفي كيفية طرحهم المسائلوإذا كانت البيئات الاجتماعية المغلقة تضطر الرواد إلى حجب بعض أفكارهم الأكثر مغايرة للمألوف فإن الأسوأ من ذلك أنها لا تستجيب لهم حتى للأفكار التنويرية الأقل مغايرة التي جهروا بها وليس هذا سوى جانب من المعضلة الثقافية فالمعضل الحقيقي هو أن الناس في كل مجتمع يتقولبون بما هو مألوف ويذوبون في ما هو سائد ويرفضون تلقائيا ما يخالفه وتستمر الأجيال في تتابع حتمي حاسم يُديم التناسل الثقافي ويستبقي التصورات الخاطئة مهيمنة على الأمم قرونا ممتدة ،فما يتبرمج به كل فرد يجسد شخصيته ويحدد هويته وبذلك يصير أي نقد لما هو سائد نقدًا لشخصه وتهديدًا لوجوده وهذا العائق العام هو الذي عطَّل تطور الثقافات وصبَغ حياة كل الرواد بالعسر وربما بضياع الجهد من دون نتيجة بل أكثر من ذلك قد تؤدي الأفكار الريادية إلى إثارة المؤسسات التي تحرس الجمود فتطارد الرواد أو يتم تصفيتهم أو إحراقهم كما حصل لجوردانو برونو.. هذه الحقائق التاريخية عن معاناة رواد التغيير ومواجهتهم بالرفض تلقائيا في كل مكان وعلى امتداد التاريخ وحتى اليوم تنفي المزاعم التي تدعي بأن التطور الحضاري يحصل تلقائيًّا وبأنه يتحقق بفاعلية التراكم التلقائي، وبإمعان النظر في هذه المزاعم يتضح أنها ناشئة عن الخلط بين تطور العلوم ضمن دوائر استثنائية ضيقة وبين تطور المجتمعات التي أثبتت وقائع التاريخ أنها لا تتحقق إلا بعد كفاح مرير لتغيير البنيات الذهنية وليس بشكل تراكمي تلقائي فإذا كانت بعض المجتمعات الشديدة الانغلاق ثقافيا تستمر تواصل الرفض لأي تغيير فإن المجتمعات الأقل انغلاقا تستجيب إيجابيًّا للرواد ولكن بعد رفْض ممض بل في الغالب لا تأتي الاستجابة إلا بعد مماتهم وبذلك لا تضيع جهودهم حتى وإن جاءت الاستجابة متأخرة.. كان ليسنق محظوظا فقد جاء تأثيره سريعا وعميقا لأن المجتمع الألماني كان في حالة هياج وكان متهيئا نفسيا بأن يستجيب للتنوير كما أكد ذلك جوته لقد رفع ليسنق راية التنوير فاستجاب له قومه كما استجابوا من قبل لمارتن لوثر وكما يقول الشاعر الفيلسوف الألماني هاينريش هاينه في كتابه (في تاريخ الدين والفلسفة):ألمانيا لم تنجب من بعد لوثر رجلا أفضل أو أعظم من ليسنق فهاتان الشخصيتان هما فخرنا وبهجتنا وفي كدر الحاضر وكآبته نرنو بأبصارنا إلى تمثاليهما المواسِيَيْن وإنهما ليومئان لنا بوعد مشرق.. أجل سيأتي الرجل الثالث الذي سينجز ما بدأه لوثر وما استأنفه ليسنق واحتاج إليه الوطن الألماني احتياجًا كبيرًا إنه المحرر أو المنقذ الثالث وإنني لألمح درعه الذهبية الوهاجة التي تشعإن ريادة وفرادة ليسنق قد أكدها قادة الفكر الألماني مثل هاينه وجوته، وكلاهما يعتبره نيتشه أحد الثلاثة الألمان الأعظم وهم في نظره: جوته وهيجل وهاينه.. ويواصل هاينه القول:ولقد أثر ليسنق كما أثر لوثر ليس فقط في أن ليسنق فَعَل شيئا محددا وإنما في أنه أهاج الشعب الألماني في أعماقه وأحدث حركة فكرية شافية مجدية بنقده وجدلههكذا هي الريادة الأصيلة الفذة وهكذا يتحقق الانفتاح والنمو والتطور حين تستجيب المجتمعات لروادها.. أما جورج لوكاش فيعود في كتابه الآخر (الرواية التاريخية) ليشيد بالدور الريادي الذي اضطلع به ليسنق في استخدام التاريخ ليس لعرض وقائعه أو التحقق من هذه الوقائع وإنما بوصفه مادة للعمل الدرامي من أجل التنوير وتحريك الأذهان فيقول لوكاش: إن العلاقة الجدلية بين التاريخ والتراجيديا قد جرى إدراكها كمشكلة أوَّلا في كتابات ليسنق وفي كتابات ليسنق يجد أعلى صيغه مفهوم التنويرية الجديد عن العلاقة بين الدراما والتاريخ.. يضع ليسنق المسألة على نحو أكثر حسمًا وصراحةً وإخلاصًا مما يفعل منظِّرو الكلاسيكية الفرنسيةويشير لوكاش إلى الإسهامات المهمة لليسنق:في إيضاح معضلة الدراما التاريخيةثم يقول لوكاش:ولا يزال ليسنق يحدد العلاقة بين الكاتب والتاريخ كليا بروح فلسفته التنويرية وهو يذهب إلى أن التاريخ هو بالنسبة للكاتب المسرحي العظيم ليس أكثر من مستودع أسماءويواصل لوكاش القول:إن الوظيفة الثورية (التنويرية في ألمانيا) تكافح ضد الانقسام القومي، ضد التجزئة السياسية والاقتصادية لقطر يستورد وسائل تعبيره الثقافية والايديولوجية من فرنسا وينغمر شكل التنويرية الألماني بالضرورة في جدال حاد مع هذه الثقافة الفرنسية وهو يحتفظ بهذه النغمة من الوطنية الثورية حتى عندما يكون المحتوى الحقيقي للمعركة الايديولوجية هو مجرد الصراع بين مراحل مختلفة في تطور التنويريةويقول لوكاش:ليسنق بوصفه منظِّرًا كبيرا في المسرح فهو يفهم أن الإنسان يجب أن يكون في قلب الدراما وأنه لا يمكن أن يصبح بطلا لمسرحية إلا شخص نستطيع أن نتعاطف معه مباشرة قلبا وقالبا طوال كامل مدى مصيره وسيكلوجيته الفريدة. إن الهدف من الكتابة عن رواد التنوير من مختلف الأمم هو إيضاح أن البداية لتحديث أي مجتمع تكون بأفكار ريادية خارقة مغايرة لما هو سائد فإذا اقتنع بها قادة الفعل واستجابوا لها استجابةً إيجابية كافية تَغَيَّرتْ بذلك طريقةُ التفكير واتجاه حركة المجتمع وتبدلت مسارات النشاط وتحددت الرؤية لما يجب فعله وإنجازه. إن عمليات التحديث تشبه إنشاء مشروع عملاق إن المشروع يبدأ بفكرة بازغة في عقل قيادة سياسية أو إدارية فإذا تبلورت وتقرر تنفيذها بدأت أدوار المصممين والتنفيذيين فمن هذه النقطة وفي هذه المرحلة فقط تشتد الحاجة لتوفير المهنيين لمختلف قطاعات العمل ومثل ذلك يقال عن عمليات التحديث والتنمية فالمتخصصون مطلوبون لأداء الأعمال المحددة مسبقًا إن حركة الأفكار لابد أن تسبق التعليم هكذا كان الأمر في كل التطورات الحضارية التي شهدتها المجتمعات الإنسانية، إن المعلومات ذاتها لا تؤدي إلى التغيير ما لم تكن مسبوقة بتغيير التصورات التي جَمَّدت المجتمعات، فالمعلومة الصحيحة لا تكون مقبولة فضلا عن أن تكون مؤثِّرة ما لم تتوافق مع التصورات السائدة وكمثال بسيط على معضلة التنافر المعرفي فإن الدارس الذي لا يؤمن بكروية الأرض سوف يحفظ المعلومات المتعلقة بذلك للامتحان فقط لكنه سوف يبقى يسخر من القائلين بها وليس هذا سوى مثال بسيط ينطبق على قضايا علمية كثيرة.. لقد كشَفَتْ قرونٌ من تعميم التعليم بمختلف مراحله ومجالاته أن توفُّر المعلومات بحد ذاته لا يؤدي إلى تعديل التصورات ولا إلى تغيير طريقة التفكير ولا إلى استبدال معايير القبول والرفض فالبُنيات الذهنية والوجدانية المتكوِّنة تلقائيًّا وتلقينًا تبقى رافضة للأفكار والتصورات المغايرة مهما تلقت من معلومات أو نالت من تعليم..
مشاركة :