بقي حُرّ العقل فصار أشهر فلاسفة العصر - إبراهيم البليهي

  • 11/22/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لقد جسَّد(برتراند راسل) رؤيته الإنسانية ضد العدوان والغطرسة والتعصب والعنصرية والبؤس الذي يسبِّبه الإنسان للإنسان في مواقف عديدة وظل ثابتًا على هذه المواقف كما أن كتاباته تعبِّر عن هذه الرؤية بوضوح شديد ومن ذلك قوله: (لقد تَحكَّمَتْ في حياتي ثلاثة انفعالات: البحث عن المعرفة.. والحنين إلى الحب.. والإشفاق على الذين يقاسون ويتعذبون).. ربما أن برتراند راسل من أروع الأمثلة على نجاة القابليات من التنميط التعليمي وسلامته من الشلل الذهني الذي ينتج عن التأطير فهو أعظم علماء الرياضيات وأشهر فلاسفة القرن العشرين وأكثرهم انفتاحًا واستقلالاً وتفرُّدًا وأوسعهم تأثيرًا وأغزرهم إنتاجًا وأشدهم تنوعًا في الأفكار والاهتمامات والنشاط وامتداد التأثير وأوفرهم في الحس الإنساني المفتوح وأشدهم عداء للاستبداد والعدوان... إنه يعزو انفتاح عقله ومرونة قابلياته وانطلاق خياله واستقلال تفكيره وسبب إبداعه إلى أنه نجا من القولبة التعليمية فقد كتَبَ يقول: ((أشعر بالسعادة إذْ أنني لم أذهب إلى المدرسة من قبل وإلا افتقرت إلى المقدرة والشجاعة على التفكير المبدع المستقل)) فهو لم يلتحق بالتعليم العام وإنما عاش فترة الطفولة والمراهقة في تعلُّم حُر في منزل جَدِّه لكنها مرحلة كانت مشحونة برغبة تلقائية عارمة في المعرفة فقد كان منذ سنواته الأولى مهتمًّا اهتمامًا تلقائيًّا بأنْ يَعْرِف الحقيقة وعاش هذا الشغف بمنتهى النشاط والاستثمار وبهذا الشغف المتوقد والاهتمام التلقائي القوي المستغرق تكوَّن ذلك العقل الجبار الذي طارت شهرته في كل الآفاق وتُرجمتْ مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة إلى مختلف اللغات.. عَشق الرياضيات منذ الصِّغر فاندفع تلقائيًّا في تحصيلها حتى صار أعظم علمائها وأقدر فلاسفتها ولكن هذه العَظَمة لم تتكوَّن في المقاعد الدراسية القسرية ولا في التعلُّم الاضطراري وإنما تكوَّنت بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق وكما عبَّر عن ذلك بوضوح فقد كتب يقول: ((عندما بلغت الحادية عشرة بدأت بإقليدس وكانت هذه من الأحداث العظيمة في حياتي إذْ أني كنت مشدوهًا بنشوة كنشوة الحب الأول فلم أكن أتخيل أن هناك شيئًا في العالم لذيذًا كذلك الشيء)) هكذا تكون لذة المعرفة غامرة ومدهشة لمن كان عقله متعطِّشًا ومفتوحًا لكن الذين يضطرون إلى التعلُّم من أجل المهنة أو اللقب الأكاديمي يكونون محرومين من هذه اللذة العظيمة المتجددة بل بالعكس يعانون مرارات التجرُّع لمواد دراسية لايسيغونها ولم يشعروا بالحاجة إليها فالعلم لا يستجيب إلا للذين يستشعرون لذة المعرفة... وإذا كان لويس هال في كتابه (الناس والأمم) يؤكد بوضوح بأن الحضارة تعتمد في تقدمها على عاملين هما: الدافع المبدع والنظام فإن برتراند راسل يؤكد مرارًا وتكرارًا على أن الرغبة هي مفتاح قابليات الإنسان فلا يمكن أن يتعلَّم الإنسان تعلُّماً ناجعاً إلا إذا كان مدفوعًا بشغف ذاتي ومن ذلك قوله: ((إن الاتحاد بين العقل والهوى قد جَعَل من الإغريق عمالقة على مدى بقائهم على هذه الحالة)) فما أنْ خبا هوى المعرفة لديهم حتى تراجعوا تراجعًا بائسًا جعلهم في مؤخرة المسيرة الحضارية فالمعرفة التي تُقَرِّب من فهم العالم وتنقل الإنسان من مستوى التبرمج التلقائي إلى مستوى الوعي القصدي أعظم من أن تكون مجرد وسيلة للحصول على شهادة أو التأهُّل لمهنة فالمعرفة مسؤولية وجودية فردية والتأهُّل لهذه المسؤولية العظيمة لا يتحقق تلقائيًّا وإنما يتطلب إدراكًا لعظمة هذه المسؤولية وتكوين الذات تكوينًا منفتحًا ومتطلعًا يتناسب مع هذه المسؤولية الدافعة ويؤهِّل لمواصلة البحث الدقيق والاستقصاء الواعي والتحقق الموضوعي وقبل ذلك ومعه وبعده لابد من إدراك خفاء الحقيقة وكثرة الصوارف والحواجز التي تحول دون الإحساس بغيابها وتُنيم الإنسان بأوهام امتلاكها.. في كتابه ( فلسفتي كيف تطورت) يقول راسل: ( بدأتُ أفكر في المسائل الفلسفية في الخامسة عشرة من عمري.. كنتُ أفكر بمفردي.. وكانت الرياضة تشغل معظم وقتي وتسود محاولاتي الأولى في التفكير الفلسفي.. لكن الحافز الذي دفعني إلى التفكير كان هو الشك)) وهنا نتذكَّر مقولة الإمام الغزالي: ((من لم يشك لن يبحث ومن لم يبحث بقي في العمى والضلال)) إن الأصل في عقل الإنسان أنه يبقى مغتبطاً بما تبرمج به تلقائياً وأنه في الحكم على الأفكار والأعمال والاتجاهات هو معيارُ ذاته فهو يكون مشحونًا بالأحكام المسبقة وبالتصورات الثابتة التي لم تخضع لأي فحص أو تحليل أو مراجعة فتبقى تتحكَّم برؤاه ومواقفه واتجاهاته حتى يحصل له ما يثيره ويستفزه ويَخلق في نفسه شكّاً فيما كان غافلاً عن طبيعته ولم يبحث في الطريقة التي تكوَّن بها في ذاته فبقي مغتبطًا به واثقًا أنه يسير في الاتجاه الصحيح إن أي مراجعة للتاريخ أو للواقع تؤكد ثقة الناس المطلقة بمحتوى أذهانهم وإصرارهم بصلف على رفْض المغاير فما من رسول إلا وقوبل بالتكذيب وما من مفكر أتى بما هو مغاير للسائد إلا وجوبِه بالرفض وما من نظرية علمية جديدة إلا قوبلت بالسخرية أو الاستخفاف أو الاستنكار إلى أن تفرض نفسها بمضي الزمن.. إن قابليات الإنسان يحتلها الأسبق فإذا كان الشغفُ بالمعرفة هو المحتل الأول بعد بزوغ الوعي الفردي فإن النتائج تكون عظيمة وباهرة لذلك فإن عالم النفس الأمريكي الشهير سكينر يؤكد على الأهمية القصوى للشغف التلقائي فيقول: ((لاينبغي لنا أن نعلِّم الأفراد أن يقرأوا كتباً عظيمة فالأهم هو أن نجعلهم يحبون القراءة)) فليس المهم إغداق النصائح إلى الدارسين أو إلزامهم بحفظ مقررات تعليمية وإنما المهم هو غرس الشغف فيهم ليندفعوا تلقائيًّا إلى التعلُّم والبحث والاستقصاء والتلذذ بالمعرفة وليس برتراند راسل سوى واحد من النماذج المضيئة التي تشهد بحياتها لهذه الحقيقة فقد امتلأت قابلياته منذ الصِّغر بالولع بالمعرفة وبقي هذا الشغف مستحوذًا عليه خلال عمره كله إلى درجة مدهشة كما يظهر ذلك من النص السابق حيث كان يشعر بنشوة المعرفة وكذلك النص التالي فهو في مذكراته يستعرض أسماء بعض العلماء والفلاسفة الذين: ((قرأ لهم بشراهة)) ثم يقول: ((وكان أهمُّ من هذين سواء في ذاته أو في أثره على عملي: جورج كانتور فقد بَسَطَ نظرية الأعداد اللانهائية في كتاب يصنع التاريخ ويُظهر العبقرية المدهشة وهو كتابٌ صعبٌ للغاية ظللت فترة طويلة لا أفهمه حق الفهم فنسخته كلمة كلمة في دفتر إذْ أني وجدت أن هذه الطريقة من التقدم البطيء كانت تساعدني على فهمه)) إن هذا النص يستحق التوقف والتأمل فَتَخَيَّل عالمًا عظيمًا وفيلسوفًا نابغًا يدفعه حُبُّه للمعرفة ليس إلى تكرار قراءة كتاب معقَّد ومستغلق في الرياضيات وإنما ينسخه كلمةً كلمة لكي ينساب المضمون إلى عقله ببطء وهذا دليلٌ على قوة الرغبة وشدة الشغف..؟!! ومن ناحية أخرى فإنه بهذا النص يشير إلى أنجع الطرق للاستيعاب والتفهُّم إن هذا الانسياب للمضمون بكتابته ببطء ملمحٌ من ملامح الطبيعة التلقائية للإنسان كما أنه يؤكد أهمية التفاعل بين الحواس والدماغ في عملية التعلُّم خصوصًا اليد والعين فكتابة النص ببطء وبتفهُّم يقظ يتفاعل مع حركة اليد ومشاركة البصر هي أسلوبٌ ناجع لتحقيق الفهم إنه تكاملٌ وتفاعلٌ لا تنوب عنهما القراءة وحدها مهما تكرَّرَتْ.. لقد تلقى راسل تعليمًا منزليا منتقى غير مكتظ بالمواد المتنافرة بل تم التركيز على المجالات التي يهتم بها اهتمامًا تلقائيًّا وبذلك حُميتْ طاقته من التبدد وحُمي وقته من الإهدار وحُمي عقله من العزوف والنفور والانسداد فانطلق يتعلَّم ذاتيًّا بحرية ضمنتْ له التفاعل والتكامل التلقائي بين كل قابلياته فقد اندفع إلى المعرفة بشغف ملتهب وبتوقُّد يزداد غليانًا كلما تقدم في العُمْر واستمر بهذا الشغف كل عمره فولَعُهُ بالمعرفة لم يَفْتُر خلال عمره كله لأن قابلياته تشكلت مبكرًا بهذا الولع واستمر الشغف ينمو ويتجدَّد ويتسع ويتعمق فقد نجا من قولبة التعليم العام فلم يمر بأي مرحلة من مراحله وحين التحق بالجامعة لم يكن طالبًا مُدَجَّنًا مشلول العقل أو نافرًا خامد الرغبة وإنما كان باحثًا متمكِّنًا ومفكرًا مستقلا فكان أساتذة جامعة كمبريدج يتعاملون معه كزميل واعد أكثر من كونه طالبًا فقد كان منفتحًا على كل الآفاق ثم جاءت إنجازاته بسرعة في الرياضيات تنظيرًا ملهِمًا وفلسفة إبداعية ثم توالت مؤلفاته بتنوع وشمول وغزارة خلال قرن كامل تقريباً.. لذلك لم يكن يعطي الدراسة ذاتها في الجامعة أي أهمية إلا بأنها مكانٌ للنقاشات المفتوحة والالتقاء برجال الفكر وتكوين علاقات علمية وفلسفية فهو يقول: ((لما كنتُ طالبًا في الجامعة كان شعوري أنا ومعظم زملائي أن المحاضرات كانت مَضْيَعة تامة لوقتنا)) ويصف التدريس في الجامعة بأنه: ((كان تدريسًا رديئًا كل الرداءة)) ولا يتردد بأن يصرح بأنه احتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لإبرائه: من ضيق الأُفُق الذي أصابته به الجامعة إنه يرى أن مهمة المعلم ليست إعطاء معلومات بل إثارة الاستشكالات وغرس الشغف وإرشاد الطلاب إلى أسماء الكتب المهمة التي تتجاوب مع شغفهم وأن يحرص على إحراجهم بأسئلة تستوجب البحث والاستقصاء وبهذا التكوين المرن المفتوح المتوقد تنمو الفردية الواثقة ويتأسس العقل العلمي ويتكوَّن الإحساس بالمسؤولية المعرفية.. يؤكد راسل أن طبيعة الإنسان تنفُر من التكليف الذي لا ينبع من ذات الفرد فيؤكد أن: ((الطفل الذي يُرغَم بأي وسيلة يتظاهر بالإذعان في كراهية)) كما يكرر التأكيد بأن: ((الإرغام في التربية والتعليم يدمِّر الأصالة والذكاء والرغبة في المعرفة فالأطفال الذين يُرغَمون ليتعلموا يحصلون على كراهية للعلم وعندما يفكرون فإنهم لا يفكرون تلقائيًّا)) إن الإنسان كائنٌ تلقائي فأي إرباك لطبيعته التلقائية فإنه يُحدث من الضرر في قابليات الفرد بقدر ما يتعرَّض له من تحديد وتقييد وإغراق بالتعليمات وبالأوامر والنواهي.. إن راسل بفكره الخارق ومعارفه العميقة والمتنوعة واهتمامه القوي المتجدد قد توصَّل إلى أن من يملك الشغف التلقائي إذا تعرَّض للتقييد أصابه ضررٌ مدمِّر لمواهبه فيقول: ((حتى اهتمام الولد في الاختراعات يمكن أن يُقْتَل من خلال التعليمات الشديدة فإذا كنتَ تعلِّم ولدًا قواعد الضغط العام (في الميكانيكا) في وقت الدرس فإنه يحاول أن يتجنب الحصول على العلم الذي تحاول أن تشرحه في حين أنه إذا كان عندك ضاغطة في الساحة الخلفية ومَنَعْتَه أن يمسها فإنه سيصرف كل فراغه ليدرسها)) وهذا تأكيدٌ غير مباشر لطبيعة الإنسان التلقائية فقابليات الفرد لا تنفتح إلا من داخل ذاته أما قَسْرُه أو استجابته اضطرارًا فإنها تؤدي إلى انغلاق منافذ عقله وتجميد وجدانه.. إن طبيعة الإنسان التلقائية تستوجب تركيز الاهتمام على بناء الرغبة الذاتية في المعرفة وإثارة الفرد ذاته حتى تتأجج فيه هذه الرغبة فيرى راسل أن: (الكثير من المتاعب التي يعانيها الدارسون يمكن تجنُّبها في جعل الدروس اختيارية)) إن التعلُّم اضطرارًا ضياغٌ للأعمار والأموال وإهدارٌ لقابليات عظيمة واعدة وقد نتج ذلك عن عدم إدراك أن التلقائية هي مفتاح الطبيعة البشرية.. إنه يرى أن وظيفة الجامعات ليست تقديم المعارف المستقرة الجاهزة وإنما حَفْز العقول إلى الاكتشاف فيقول: ((فالمعارف الجديدة هي السبب الأساسي للتقدم وبدونها سرعان ماتصبح الدنيا جامدة واقفة)) كما يرى أهمية استنفار عقول الدارسين لكي تتشرَّب الولع بالمعرفة لذاتها وليس فقط لجوانبها النفعية كاستهداف التكوين المهني ونحوه فيقول: ((إن البحث وراء المعرفة إذا كان لغاية نفعية لا يمكن أن يعيش طويلاً فالمعرفة النفعية محتاجة لكي تثمر إلى أن تُطَعَّم بالبحث الخالي من الغرض الذي ليس له هدف وراء الرغبة في فهم الدنيا فهمًا أحسن)) إن الشغف بالمعرفة لذاتها والتلذذ بالفهم والاندفاع للكشف وإدراك أهمية الاستقصاء والسعي المستمر نحو الاقتراب من الحقيقة كان حافز عظماء رواد العلم فلم يسعوا خلف مصلحة ولا كان مطلبهم الحصول على وظيفة أو شهادة أو السعي إلى وجاهه وكما يقول راسل: ((فخطوات التقدم العلمي العظيمة تكون كلها في أول الأمر نظرية صرفة ولا تُكشَف صلاحيتها للتطبيقات العملية إلا فيما بعد وإذا لم يقدَّر لبعض النظريات البارعة أن تُستخدَم في الحياة العملية فإنها تظل مع ذلك قيِّمة بذاتها لأن تفهُّم الدنيا من خير مايطمح إليه الإنسان)) إن المعرفة بذاتها ولذاتها قيمة عليا لا تدانيها أي قيمة نفعية عملية ولولا أن بعض الأفراد المتميزين قد أدركوا هذه القيمة العليا بعمق وسَعَوا نحوها بإلحاح لما تقدمت العلوم ولما تطورت الحضارة.. إن تجربته الذاتية مع خصوبة التعلُّم اندفاعًا وملاحظته لأضرار التعلُّم اضطرارًا هي التي أقنعته بأن الناس لا يولدون أغبياء وإنما التعلُّم الاضطراري هو الذي يصيبهم بالغباء.. لذلك كافح كفاحًا ملحًّا ومستمرًّا من أجل إحداث تغييرات جذرية في العملية التعليمية فكَتَبَ عن ذلك كثيرًا وتحدث طويلاً وألَّف عددًا من الكُتُب ومنها كتابه (في التربية) وكتابه (التربية والنظام الاجتماعي) وكلاهما له في اللغة العربية أكثر من ترجمة.. فإذا كانت نتيجة التعليم الجمعي في مجتمعات حرة بهذا السوء وبهذه الأضرار المعيقة المدمِّرة للقابليات الإنسانية العظيمة فكيف يكون الوضع في المجتمعات ذات الثقافات المغلقة والرؤية الأحادية...؟! إن نجاة قابليات برتراند راسل من تأثير التعليم العام لم يقتصر على حفظ ذهنه من التأطير الذي يصيب العقول بالشلل والإمَّعيَّة وإنما بقيتْ عواطفه أيضاً مفتوحة تمتد إلى كل الوجود الإنساني أينما كان ولا تبقى محصورة بواقعه المحلي ولا مغلقة ضمن دائرته الثقافية أو العرقية أو الطبقية فنشأ محاربًا للعدوان والظلم وناقدًا للتحيزات ومناهضًا للتسلط أينما حصل كما أنها أبقته مرن القابليات ومفتوح العقل فلا يتردد بأن يعلن بكل وضوح بأنه أخطأ وبأنه قد تراجع عن رؤيته بعد أنْ اطلع على ذلك الكتاب أو بعد أنْ التقى بذلك العالم أو ذلك الفيلسوف إنه يرى أن المعارف الإنسانية في الكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية هي معارف تقريبية احتمالية وأن على الإنسان أنْ يكون مستعدًا لتصحيح آرائه وتعديل مواقفه متى قامت أسبابٌ معرفية كافية... لقد جسَّد رؤيته الإنسانية ضد العدوان والغطرسة والتعصب والعنصرية والبؤس الذي يسبِّبه الإنسان للإنسان في مواقف عديدة وظل ثابتًا على هذه المواقف كما أن كتاباته تعبِّر عن هذه الرؤية بوضوح شديد ومن ذلك قوله: ((لقد تَحكَّمَتْ في حياتي ثلاثة انفعالات: البحث عن المعرفة.. والحنين إلى الحب.. والإشفاق على الذين يقاسون ويتعذبون)) إن راسل نموذجٌ للمفكر الإنساني باهتماماته ونشاطه: قولاً وعملاً.. لقد نجا من التأطير فأتاح له ذلك أن يرى الأضرار الفادحة التي تنجم عن تأطير العقول وحَصْر العواطف وشَحْنها بتعظيم الذات وتحقير المغايرين والامتلاء بالحقد على المخالفين وكما يقول الدكتور عادل مصطفى: ((نحن حين نقف على الآليات التي تجعلنا نرى العالم من زاوية واحدة فَرضَتْها علينا ثقافتنا التي نشأنا عليها نكون في الوقت نفسه وبالفعل ذاته قد تحررنا من سجن الإطار ومَلَكْنا مفتاحه)) إن الناس يعتبرون التعليم الجمعي خيرًا محضًا ولا يفطنون إلى أن التعليم في أحيان كثيرة يكون وسيلة لغرس الأحقاد وتأكيد التنافر وتأجيج العنف وتبرير العدوان وكما يقول راسل: ((إن العنصرية هي بصورة رئيسية حصيلة المدارس)) إن تجربة العالم مع هتلر وأوهام النازية قد نبَّهَتْ أهل الفكر إلى المخاطر الكبرى التي يمكن أن تنتشر عن طريق التعليم المؤدلج... إن راسل يرى أن على الفيلسوف أن يلتزم بالموضوعية مهما كانت الظروف وأن لا يخلط بين فلسفته ومواقفه الشخصية فيقول: ((أن تكون فيلسوفًا هو شيٌء وأن تكون ناقدًا أخلاقيًّا أو مواطنًا ناقماً هو شيءٌ آخر)) فعلى الفيلسوف أن يكون واضحًا حين يتحدث كمصلح أخلاقي أو اجتماعي وحين يتحدث كفيلسوف فالفلسفة رؤية إنسانية عامة لا ترتبط بمجتمع دون آخر.

مشاركة :