منذ عام 2005 والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تقود ألمانيا والاتحاد الأوروبي حتى إن كان من خلف الستار. الآن تحمل "ماما ميركل" كما يطلق عليها الألمان حقائبها وتتخلى عن منصبها لتفسح الطريق لقيادة جديدة تقود ألمانيا والاتحاد الأوروبي أيضا. فرنسا جار ألمانيا وشريكتها في إدارة شؤون الاتحاد ستشهد انتخابات رئاسية في نيسان (أبريل) المقبل، وحظوظ ماكرون جيدة حتى الآن على الأقل، لكن من يعلم بمقياس عالم السياسة، وكما قال الزعيم البريطاني ونستون تشرشل "الأسبوع فترة طويلة في عالم السياسة" يمكن أن تتغير الكثير من المعطيات ومعها نتائج الانتخابات والموقف من الاتحاد الأوروبي. إذا توغلت أكثر بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فستجد إيطاليا تعاني من أزمة اقتصادية، وإسبانيا تمزقها النزعات الانفصالية سواء من الكتلان أو الباسكين، وإن باتوا أقل حدة في نزعاتهم الانفصالية في الوقت الحالي. أما المجر فتبدو تحت حكم فيكتور أريان أكثر شعبوية، وأبعد ما تكون في قيامها وأفكارها الفعلية عن قيم الاتحاد ومنطق تفكيره. في الوقت ذاته يصرخ جميع أعضاء الاتحاد من الصعوبات والتحديات التي يواجهونها من الهجرة غير الرسمية. باختصار أينما وليت وجهك في الاتحاد الأوروبي فستجد القليل من مشاعر التفاؤل حول المستقبل والكثير من القلق والتوتر والاحتقان. يدرك قادة أوروبا أنه بنهاية هذا العقد سيتحدد مستقبل أوروبا ودورها في العالم، فالتحولات الجارية في القوة العالمية ذات طابع جذري، والضغط الذي يتعرض له الاتحاد غير مسبوق، والعولمة ومهما وضع أمامها من عقبات وعراقيل ستجد طريقها، وستحدث تحولات في النماذج الاقتصادية، بل في نسيج المجتمعات ذاتها، والاستخدامات الجديدة من التكنولوجيا والتحديات الديموغرافية، وصعود الصين والعديد من الاقتصادات الناشئة، كل هذا يؤشر على أن العالم في طريقه لنظام جيوسياسي وجيواقتصادي وجيوتكنولوجي جديد. فهل أوروبا جاهزة للتعامل مع القادم الجديد؟ وما هو الدور الذي ستقوم به في عالم سريع التغير؟ هل يمكن بعد رحيل قيادة تاريخية بثقل المستشارة أنجيلا ميركل وقبلها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن تفلح الدول الأعضاء في الحفاظ على الاتحاد، وألا ينتهي به الأمر إلى قوة تأتي في ذيل القائمة بعد الولايات المتحدة والصين؟ وما الذي يجب على أوروبا أن تقوم به لتمسك مصيرها بيدها خاصة بعد التغييرات الجارية في الولايات المتحدة وتراجع ثقة حلفائها بقدرتها على القيادة. "الاقتصادية" سعت إلى استكشاف جوانب عدم اليقين التي تواجه الاتحاد الأوروبي والتي ستشكل مستقبله، وتوجهت بالسؤال لعدد من الخبراء وصناع القرار الأوروبي حول ما هي أبرز التحديات التي ستواجه أوروبا من الآن وحتى نهاية العقد الجاري. تهيمن على مخيلة الجميع سواء الأوروبيين الذين يحتفلون برأس السنة الميلادية، أو الشعوب خارج القارة، صورة تقليدية لأوروبا في هذا الوقت من العام، حيث الثلوج تغطي الطرق والأرصفة والمنازل، والملابس الشتوية الثقيلة، والتزحلق على الجليد، وغيرها من المظاهر التي تعكس برودة الطقس، وبغض النظر عن واقعية تلك الصورة من عدمها، فالمؤكد أن أوروبا تتسم بالبرودة في فصل الشتاء، لكن بالنسبة إلى كثير من الخبراء فإن تلك الصورة تتراجع لتبدو يوما بعد اخر انها من صور الماضي وحكايته. الخبير في مجال التغييرات المناخية الدكتور هيريس مارلو ونائب رئيس هيئة التغير المناخي في المملكة المتحدة، يرى أن التغيير المناخي ظاهرة عالمية لكن تأثيرها في أوروبا سيكون أكثر إدراكا ووضوحا، مشيرا إلى أن هذا سينجم عنه على الأمد الطويل تغييرات في طبيعة المنتجات الزراعية بل والقدرة على تلبية احتياجات العديد من الصناعات. وقال لـ"الاقتصادية" إنه "بنهاية هذا العقد ستبدأ أوروبا في الشعور بتأثير ارتفاع درجات الحرارة والأحداث المناخية ذات الصلة، فأوروبا باتت أكثر دفئا مقارنة بالخمسينيات، ثانيا يحتمل أن نصل إلى نقطة تحول حيث تصبح التغييرات المناخية مثل الأمطار الكثيفة والفيضانات من الصعب أو من المكلف للغاية السيطرة عليها، وبالنسبة إلى الجانب الأول فإنه حتى لو تصورنا أن جميع الانبعاثات الغازية قد توقفت تماما الآن، فإن ثاني أكسيد الكربون الموجود بالفعل في الغلاف الجوي سيبقى 40 عاما على الأقل، ومع زيادة ارتفاع درجات الحرارة سيكون الطقس في أوروبا صيفيا أكثر، وستزداد حالات الجفاف وحرائق الغابات، فعلى سبيل المثال فقدت أوروبا في صيف عام 2018 ما يراوح بين 30 و50 في المائة من بعض المحاصيل الزراعية الرئيسة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، كما يتوقع أن ترتفع تكاليف الرعاية الصحية بشكل كبير مع كل موجة حر". الباحث الاقتصادي جي. دي مايك يربط بين طبيعة التحدي المناخي وما يسببه من ضغط اقتصادي على بلدان الاتحاد الأوروبي. ويقول لـ"الاقتصادية" إن "ارتفاع درجات الحرارة بشكل أكبر في أوروبا، سينجم عنه مزيد من الإفقار لمئات الملايين من سكان الجنوب الأوروبي، الذي يعاني ضغطا اقتصاديا وضغطا مباشرا من موجات الهجرة التي تعبر المتوسط، كما ستواجه أوروبا بشقيها الجنوب الفقير نسبيا والشمال الغني تحديا ربما تبلغ تكلفة مواجهته بفاعلية تريليونات الدولارات، وهو المتعلق بإعادة تخطيط المدن والمناطق الحضرية للتعامل مع التغيرات المناخية وأثرها السلبي في الفئات العمرية الأكبر سنا، مع الأخذ في الاعتبار أن ارتفاع درجة الحرار قد يؤدي إلى انخفاض إنتاجية بعض القطاعات الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، ومن المرجح أن تبلغ الخسائر الناجمة عن انخفاض الإنتاجية في بلدان الاتحاد نحو 1.7 تريليون دولار من الآن وحتى نهاية العقد". تترافق مع التحديات الأوروبية الناجمة عن التغير المناخي تحديات أخرى مرتبطة بالتغير الديمغرافي. فالتركيبة السكانية المستقبلية للعالم تنقسم إلى معسكرين ولا تصب في صالح أوروبا. من جهتها، تؤكد لـ"الاقتصادية" الدكتورة سارة كريستوفر من صندوق السكان التابع للأمم المتحدة، أن التركيبة السكانية في العالم تنقسم إلى معسكرين أحدهم ينمو مثل إفريقيا جنوب الصحراء (نيجيريا وتنزانيا وإثيوبيا) إضافة إلى الهند وباكستان، يضاف إلى ذلك مناطق في الجوار الجنوبي لأوروبا مثل مصر وستنمو بنحو 21 مليون نسمة بنهاية العقد وكذلك تونس ولبنان، وبحلول عام 2030 سيصل عدد سكان الجوار الجنوبي لأوروبا إلى 282 مليون نسمة مقابل 235 مليون اليوم. وتضيف "على الطرف الآخر وفي المقدمة الاتحاد الأوروبي الذي يضم حاليا 27 دولة سيراوح عدد سكانه بحلول نهاية العقد بين 498 و529 مليونا، وسيكون سكان الاتحاد أطول عمرا وبحلول عام 2030 سيكون نحو 25.5 في المائة من سكان الاتحاد الأوروبي فوق 65 عاما وكانت تلك النسبة 19 في المائة عام 2017، في المقابل الدول المجاورة للاتحاد في الجنوب سيكون 45 في المائة من سكانها تحت سن 30 عاما". ويعتقد الخبراء أن القوة العاملة في بلدان الاتحاد ستتقلص بنسبة 2 في المائة بنهاية العقد الجاري، وسيزداد الإنفاق الأوروبي على القضايا المتعلقة بالسن مثل الرعاية الصحية بنسبة 2 في المائة. مع هذا، يقول لـ"الاقتصادية" الباحث توم هاردي الخبير في مجال النمو السكاني، "تضخم أعداد الشباب في الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي خاصة في الجنوب يمكن أن يكون له آثار مزعزعة على الاستقرار في الاتحاد الأوروبي، وهناك مخاطر من أن يصبح مواطنو الاتحاد أكبر سنا وأكثر محافظة، في وقت تتزايد في موجات الهجرة غير الشرعية بما لها من تداعيات اقتصادية واجتماعية عنيفة". تتماشى مستويات وأنواع المناطق الحضرية في أوروبا إلى حد كبير مع بقية العالم، وفي نهاية العقد سيعيش معظم الأوروبيين بالفعل في مدن يراوح معدل السكان فيها بين 100 ألف نسمة ومليون نسمة، وسيعيش 7 في المائة فقط من سكان أوروبا في مدن أكبر من خمسة ملايين نسمة مقارنة بـ 25 في المائة في الولايات المتحدة، وستستهلك المدن الأوروبية ما يراوح بين 60 و70 في المائة من الطاقة، وستكون مسؤولة عن 70 في المائة من الانبعاثات الغازية الأوروبية. بدوره، يقول الدكتور ريدلي جاك أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة ويلز، "نمو المدن في الاتحاد الأوروبي يعزز الإيمان بحكومات المناطق والمدن في مواجهة الحكومات الوطنية، وعندما نقول إنه في عام 2030 ستزداد نسبة المناطق الحضرية في أوروبا مقارنة بالنسب الحالية، فهذا ليس تعبيرا عن مناطق الإقامة والسكن والعيش ولكن تعبير عن أسلوب حياة المجتمع ككل، وإذا لم يتم ذلك وفق ضوابط ومعايير صارمة فإن الإفراط في النمو العمراني سيؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والازدحام والجريمة وتفشي الأمراض والأوبئة، كما أن الزيادة في أعداد السكان في المدن يعني المزيد من التلوث ومن ثم زيادة الإنفاق الحكومي لمواجهة تلك الظاهرة، كما سترتفع الميزانيات المخصصة للأجهزة الأمنية نتيجة الارتباط بين المدن والجريمة". المشكلة العصية التي يعتقد الكثير من الخبراء أنها ستواجه قادة الاتحاد الأوروبي تدور حول قدرتهم على دفع تكاليف تلك التحديات من خلال النمو الاقتصادي. فآفاق الاقتصاد العالمي خلال هذا العقد إيجابية بصفة عامة، على الرغم من الوعكة الناجمة عن وباء كورونا، وتظهر التوقعات أن متوسط النمو الاقتصادي العالمي خلال العقد الجاري سيبلغ 3 في المائة، لكن أوروبا ستنمو بمعدل 1.4 في المائة سنويا فقط، وقد يفشل هذا المعدل في تحسين معدلات التوظيف ومستويات الاستثمار وإدماج الشباب في سوق العمل. ويشير أغلب الخبراء إلى أن الاتحاد الأوروبي سيكون القوة العالمية الثالثة اقتصاديا، وذلك على الرغم من أن الأمر يبدو مختلفا عندما يحسب على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فبينما سينمو متوسط دخل الفرد في الصين من عشرة آلاف دولار الآن إلى 14 ألفا بنهاية العقد فإن متوسط دخل المواطن الأوروبي سيقفز من 37800 دولار إلى نحو 51 ألفا عام 2030. يقول لـ"الاقتصادية" دانيال فريدي الخبير الاقتصادي في البنك الدولي، "تتجه أسواق العمل في الاتحاد الأوروبي نحو الاضطراب نتيجة التحول التكنولوجي، وزيادة الاعتماد على أساليب الذكاء الصناعي، وتكمن معظم إمكانات أوروبا الاقتصادية في مجالي الخدمات والعالم الرقمي، لكن ذلك سيعتمد على مدى سرعتها في الالحاق بالآخرين، وإذا أرادت بلدان الاتحاد أن تظل قادرة على المنافسة فسيتعين عليها زيادة استثماراتها في البحث والتطوير من 2.03 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي حاليا إلى 3 في المائة، ثانيا على أوروبا أن توازن بين اعتماد نموها الاقتصادي على التجارة الدولية والتي يمكن أن تتعرض لتحديات نتيجة عدم استقرار العلاقات الصينية الأمريكية من جانب والطلب الداخلي كوسيلة لضمان احتفاظ أوروبا بنموها الاقتصادي". مع هذا يرى الخبير في اقتصادات المستقبل إيلتون كريس أن التحدي الرئيسي أمام الاتحاد الأوربي في هذا العقد سيرتبط بقضية الطاقة وقدرة الأوروبيين على إيجاد حلول دائمة وفعالة في هذا المجال. ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن النفط سيستمر في تلبية معظم متطلبات الطاقة في العالم ويرجع ذلك أساسا إلى أن مصادر الطاقة المتجددة لن تكون قادرة على تلبية الطلب العالمي حتى ما بعد نهاية العقد الجاري، وعلى الرغم من أن أوروبا في طليعة المجتمعات التي تقوم بعملية تحول حقيقي في مجال الطاقة، فإنها لن تكون قد أكملت هذا التحول حتى عام 2030، إذ إن هدفها هو أن تحصل على نحو 32 في المائة من احتياجاتها من الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة. ويضيف "في الواقع تواجه بلدان الاتحاد الأوروبي في قضية الطاقة تعقيدات متعددة وصعبة الحل نظرا لما في طياتها من تناقضات، فهي في حاجة إلى مزيد من الطاقة بسبب نمو أعداد السكان واتساع المناطق الحضرية ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، في الوقت ذاته وكما أسلفنا ما تحصل عليه من الطاقة المتجددة غير كاف، وأمام الاتحاد الأوروبي تحد حقيقي وهو ضرورة إيجاد استراتيجية جديدة قادرة على المواءمة بين جميع تلك المتناقضات وبالطبع هذا أمر شديد التعقيد والتكلفة في آن واحد".
مشاركة :