زيارة الزعيم الصيني تشي جين بينغ لبريطانيا كانت تاريخية على كل الأصعدة. الاقتصاد والمال؛ والسياسة الدولية لاحتجاجات أغلبها من أميركا (خشية فقدان النفوذ، وإن غلفتها بمثالية الاحتجاج على «انتهاك حقوق الإنسان»)، واحتجاجات أثارتها صحافة يسارية بهدف إحراج رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون. ما يهمنا الدروس المستخلصة للبلدان العربية والأفريقية. توظيف التراث القومي وما يمتلكه البلد من ثقافة وحضارة متميزة لتحسين العلاقات العالمية وعرضها كـ«فاترينة» لجذب الاستثمارات. أيضًا التعامل مع صحافة متعددة الأنواع تتحول تغطيتها إلى قارب سريع يبحر بلا بوصلة. ودرس إعادة برمجة الرأي العام لقبول الواقع العالمي الجديد بمرونة تغلب المصالح الاقتصادية للوطن على المواقف الآيديولوجية الجامدة التي تعرقل النمو الاقتصادي؛ وفك القيود التي تفرضها قوانين الدولة على الاقتصاد. ولمعلومات القارئ العزيز، هناك ثلاثة أنواع من الزيارات الرسمية لزعماء البلدان الأخرى. الأدنى بروتوكوليًا زيارة العمل، وعادة بطلب الضيف، وهو عادة رئيس حكومة، لزيارة قصيرة لبحث قضية طارئة، يستقبله ويودعه رئيس الحكومة على عتبة 10 داوننغ ستريت، لا في المطار؛ بل يستقبله سفير بلاده ووكيل وزارة من الخارجية. يعلو الزيارة بروتوكوليًا، الزيارة الرسمية التي يرتب لها منذ فترة، ويحضر رئيس الحكومة معه عدد من المسؤولين يقابلون نظراءهم في بريطانيا لبحث أجندة أعمال متفق عليه مقدمًا؛ ويستقبل في المطار رئيس الوزراء أو نائبه، وإذا كان رئيس الحكومة الضيف هو أيضًا رئيس قد يستقبله عضو من أعضاء العائلة المالكة اختياريًا أو يحضر مأدبة العشاء. في الزيارتين ينزل الضيف في سفارة بلاده أو في فندق أو في دار له (معظم ساسة أفريقيا العرب لهم ديار في بريطانيا، لأنهم درسوا فيها طلابًا). أعلى مستوى هي زيارة الدولة وتتم فقط بدعوة من القصر (بالاتفاق مسبقًا مع الحكومة) وترسل للضيف رئيس دولة صديقة أو مهمة. الدعوة تتم لرئيس الدولة مرة واحدة، ولا تتكرر أبدًا طوال حياة أو فترة حكم الزعيم؛ وإن تتكرر زيارات رسمية وزيارات عمل كضيف للحكومة أو في مناسبة خاصة كزواج ملكي مثلاً أو احتفالات ملكية. الضيف يقيم في قصر بكنغهام، ويخطو على بساط أحمر في المطار أو محطة فيكتوريا إذا كان جاء بقطار من أوروبا، ويستقبله ولي العهد، وفي يوم بدء الزيارة يذهب للقصر في عربة ملكية تجرها الخيول في موكب من فرسان ويلز (الحرس الملكي) على ظهر الخيول. بلدان الحضارات القديمة ذات الثقافة والتقاليد العريقة التي «دار عليها الزمن»، حسب التعبير العربي، تنظر إلى بريطانيا بعين تقدر الحضارة والفنون والثقافة والتراث. الأميركي يتفاخر بأن داره هي الأكبر في الشارع، وسيارته هي الأضخم. البريطاني يتفاخر بأن داره هي الأقدم في الحي وسيارته كلاسيكية (أي قديمة جدًا - ومصلحة المرور البريطانية تعفي السيارات التي يزيد عمرها على ثلاثين عامًا من ضريبة الشارع). فهم البريطانيون هذه المعادلة واستغلوها للمصالح الوطنية.. ولا يتفوق أحد في العالم على البريطانيين في دقة ترتيب الاستعراضات بالخيول الفرسان بصليل السيوف في المواكب الملكية. ولا يوجد طفل في مدرسة ابتدائية حول العالم، لا يعرف ساعة «بغ بن» ومبنى البرلمان وكاتدرائية وستمنستر، وقصر بكنغهام، وميدان الطرف الأغر، والهايدبارك. استعراضات تغيير الحرس يوميًا أهم ما يجذب السائحين إلى جانب عدد من المتاحف في لندن وحدها يفوق متاحف بلدان مجتمعة. صحافة الصين ركزت على الجانب الاحتفالي كدليل على نجاح الزيارة، فالصين بلد عريق الحضارة والثقافة والتقاليد، وبالتالي يعجب المواطن الصيني في العقل اللاشعوري بالاستعراضات والتقاليد البريطانية. الرئيس الصيني في خطابه لمجلسي العموم واللوردات في أول أيام الزيارة، أشار إلى أم البرلمان وأقدم البرلمانات أربع مرات في الدقائق الخمس الأولى من الخطبة. الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بناتج قومي 11 ونصف تريليون دولار سنويًا (أميركا 19 ونصف تريليون سنويًا) ومعدلات نمو ستة في المائة سنويًا (بريطانيا أقل من واحد في المائة، وأميركا نصف في المائة معدلات نمو). يسكن الصين مليار و360 مليون نسمة.. من يتابع الثقافة والأخبار منهم مفتتن ببريطانيا، لو زار أقل من عشرة من واحد في المائة منهم بريطانيا كسياح في السنوات المقبلة، وأنفق كل منهم 500 دولار؛ يعني أكثر من خمسة ونصف مليار دولار!! بذكاء شديد اصطحب رئيس الوزراء كاميرون الزعيم الصيني إلى دائرته الانتخابية، تناول معه الغداء «فيش آند تشيبس» السمك المقلي والبطاطس المبيعة ملفوفة في ورق جرائد قديم (المقابل لساندويتش الفلافل أو الكشري في الشارع المصري) واصطحبه إلى الحانة الصغيرة في القرية التي نسي فيها طفلته الصغيرة نانسي ذات مرة. الصين تريد أن يكون لها موطئ قدم في بريطانيا ليس لعراقة حضارتها فقط، بل لمصالح اقتصادية. بورصة لندن الأشهر عالميًا (66 في المائة من المعاملات المالية العالمية تمر عبر لندن)، ومديرو المال في لندن هم الأكثر مهارة دوليًا. والصين تستثمر في التكنولوجيا والبحث العلمي في جامعات بريطانيا. الصين ستبني وتدير أكبر محطة طاقة نووية لتوليد الكهرباء في تاريخ بريطانيا واستثمارات في المواصلات، وبناء القطارات تبلغ 43 مليار دولار. لم يحتج ساسة من المعارضة على استغلال «المستثمر الأجنبي» لحاجة البلاد للطاقة رحب العقلاء بأن ينفق «الأجانب» مشاريع البنية التحتية لخلق الوظائف وترويج الاقتصاد. الدرس الأهم أن الصحافة خاصة اليسارية («بي بي سي»، و«القناة الرابعة»، و«الغارديان» و«الإندبندنت»، و«الميرور» العمالية - تمثل ثلاثة أرباع سوق المشاهدين والمستمعين ونحو 28 في المائة من سوق الصحافة المطبوعة) كانت تغطيتهم للزيارة سلبية. لم يشتبك مستشارو الحكومة في عراك مع الصحافة أو يتهمونها بعدم الوطنية، فقط ترك الأمر للعقلاء في مناقشات مفتوحة لإظهار فائدة الزيارة. الصينيون لم يأخذوا الأمر على أنه إهانة (كانت هناك مظاهرات احتجاج من المعارضين الصينيين وأهل التيبت، اعترضت موكب المرور، فحرية التظاهر مقدسة في بريطانيا)، ولم يتهم المعلقون الصينيون أحدًا بتدبير مؤامرة لإحراج الرئيس، بل أخذوا الأمر على أن الاحتجاجات لم تؤثر على الزيارة، وأظهرت أن الصين عملاق ضخم لم يلاحظ طنين الذباب حول رأسه. درس للصحافة والمسؤولين في البلدان العربية حول الأولويات والتغطية عند زيارة الزعماء لبريطانيا.
مشاركة :