كان ظهور مصطلح ” القوة الناعمة ” للمرة الأولى في مقالٍ لأستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية بجامعة هارفارد الأمريكي ” جوزيف ناي ” في العام 1990م حيث أكّد في طرحه على وجود وجه آخر للقوة الصلبة ( العسكرية والإرغام السياسي.. )، وهي القوة الناعمة بالجذب الثقافي والتأثير على الآخرين من الشعوب والحكومات بالقيم والمصالح المشتركة والتعاون التكاملي والمساعدات السخيّة، حيث يرى ” جوزيف ناي ” أنها المقدرة على الوصول للهدف المنشود من خلال جذب الآخرين عِوضاً عن الإجبار أو دفع الأموال، وقد تعددت التعريفات العالمية للقوة الناعمة ومنها ما أورده د. ” يوسف العثيمين ” حيث وصفها بأنها ممارسة تقوم بها دول معيّنة تتمثل في التأثير على سياسات ومصالح دول أخرى، وعلى توجّهات نخبها وشعوبها، عبر أدوات ثقافية ودينية وأيديولوجية، وغيرها من الأدوات التي تشكّل في مجموعها منظومة مؤثرة بطرق (ناعمة)، بعيداً عن وسائل القوّة الصلبة والضغط. وفي تعريفي المختصر لمفهوم سياسة القوة الناعمة بأنها : السلوكيات المسالمة المؤثرة لدولة ما والتي تنبع من عبق ثقافتها و أصالة قيمها تجاه الدول وشعوبها لتتوافق في نقاط مشتركة مع طبيعة الإنسان الاجتماعية الخيّرة على مختلف الأصعدة بعيداً عن الهيمنة و القوة الصلبة. وتتعدد مجالات القوة الناعمة بين الاقتصادية والاجتماعية والصحيّة والدينية والثقافية والتعليمية والسياحية وغيرها… فكلما جَذَبت الآخرين نحو ثقافتك وتوجهاتك باللين والتعاون والعطاء أثّرت فيهم لتحقيق أهدافك فيقفوا في صفّك بطريقة أو أُخرى بأقل مجهودٍ وتكلفة من تلك السياسات التي تتسم بالقوّة كالحروب والاستعمار وغيرها.. والجدير بالذكر هنا ما قامت به المملكة العربية السعودية في هذا المجال ولا تزال منذ تأسيسها تنهج منهاج الحكمةِ والرُشد والسياسة الدبلوماسية الفطِنة والمؤثّرة، وقد أنشأت وزارة الخارجية وكالة الدبلوماسية العامة والتي تهتم بتكامل الجهود وإعداد الاسترتيجيات في طريق توهج الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة الذكيّة للمملكة العربية السعودية، ونذكر بعضاً مما قامت وتقوم به المملكة العربية السعودية في سياسة القوة الناعمة: ١- الجانب الديني والإنساني : لقد شرّف الله المملكة بوجود قبلة المسلمين والحرمين الشريفين على أراضيها فكل يومٍ يتوجه إلى القبلة ما يقارب 2 مليار مسلم حول العالم، فهذا الرمز الديني الشريف يشكّل قوة ترابط مشترك لا سيما باهتمام المملكة حفظها الله منذ عهد الملك عبدالعزيز – طيّب الله ثراه – بالعناية بشؤون الحرمين وخدمة زائريه من شتى أقطار العالم الإسلامي، ولا يخفى علينا لقب – خادم الحرمين الشريفين – الذي يتفاخر ملوكنا بنسبته إليهم فهو يحمل في طيّاته أسمى وأنبل ما يتصف به الملوك، وقد أولت حكومة مملكتنا الرشيدة جُلَّ اهتمامها ببناء المساجد وتعميرها وخدمة المسلمين وسد احتياجاتهم حول العالم من مساعدات إنسانية وطبيّة و سكَنيّة وغيرها.. – على قلب رجُلٍ واحد -، ولا شك أنّ الأيادي البيضاء إذا امتدت لتخفيف معاناة الفقراء والربت على ألآمهم في أنحاء العالم فهذا إنما يعكس قوةً خيّرة تُشير إلى أسمى صفات الإنسانية فقد سُجِّل وفقاً لمنصة المساعدات السعودية الرسمية أنّ المملكة قدّمت نحو 33.15 مليار دولار أميركي من 15 جهة مانحة لـ156 دولة وغيرها الكثير من الشواهد للمساعدات الإنسانية في شتى أقطار المعمورة وهذا بالطّبع أحد أهم جوانب القوة الناعمة التي تجذب الآخرين وتؤثر فيهم. ٢_ الجانب الاقتصادي: لقد أنعم الله سبحانه على المملكة العربية السعودية بمواردِ اقتصادٍ متين ومواردٍ بشريّةٍ فذّة قادرةٍ بعون الله على مقارعة اقتصادات عُظمى الدول والثبات في الأزمات، فاليوم يلعب اقتصاد المملكة دوراً بارزاً ومؤثراً بين كُبرى الدول فترجح الكِفة به أو تتأثر بدونه وهو من بين أهم 20 اقتصاداً حول العالم ” G20 “، كما رأينا ثبات اقتصاد المملكة أثناء أزمة ” كوفيد 19 “ العالمية وتصنيفها A من كثير من الوكالات والجهات التصنيفية الاقتصادية العالمية، حيث صنفت وكالة ” فيتش ” اقتصاد المملكة بالتصنيف الإ ئتماني طويل الأجل عند مستوى A مع تطلّع مستقبلي مستقر، وبهذا المستوى الإقتصادي تمتلك المملكة قوة ناعمة متفردة تؤثر على مصالح دول العالم وتكسب تحالفتها بالاستثمارات المشتركة وإقامة المشاريع الحيوية في الدول النامية وغيرها و التي ترسم المملكة مصالحاً استراتيجةً معها على الأمد البعيد. ٣- الجانب التعليمي والثقافي : يُعَدُّ الجانب التعليمي والثقافي من أهم جوانب القوة الناعمة المؤثرة في الآخرين من حول العالم، حيث تعمل المملكة منذ عقود طويلة في برامج التبادل التعليمي والثقافي مع مختلف دول العالم حيثُ تبتعث المملكة طلابها للدراسة بالخارج بأعدادٍ كبيرة من خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث الخارجي وفي المقابل تقوم على استقطاب الدول بمنحٍ دراسية للدراسة في جامعات ومعاهد المملكة العربية السعودية ليتلقوا تعليماً مميزاً يعودُ عليهم وعلى دولهم وشعوبهم بالنفع والتقدّم حيث إن العديد من هؤلاء الطلاب تقلّدوا مناصب قيادية عند عودتهم محمليّن بالشهادات العليا لبلادهم، ومن أهم أهداف ابتعاث طلابنا لمختلف الدول هو تعزيز الصورة الذهنية للمملكة العربية السعودية في أواسط تلك الدول وبين شعوبها ونقل القيم والعادات الأصيلة لثقافة المملكة بمخالطة مختلف الجنسيات في تلك الدول كسفراء للمملكة العربية السعودية، ومن أهم أركان الجانب التعليمي للقوة الناعمة بالمملكة المدارس والمعاهد الأكاديمية السعودية بالخارج والتي تعزز نقل ثقافة المملكة وتحافظ على هوية أبناء السعوديين العاملين بتلك الدول وتمكن العرب والمسلمين من مختلف الدول بالدراسة بها واستشعار الهوية الإسلامية والعربية لغةً ومعنى وقيماً ومبدء وتعود الفكرة في إنشاء هذه المدارس بالخارج إلى اجتهادات فردية من قِبل بعض السفراء السعوديين بتلك الدول إلى أن تم تأسيس أول مؤسسة تربوية بمسمى ( الأكاديمية الإسلامية السعودية ) ومقرها عاصمة الولايات المتحدة واشنطن في العام 1984م بموجب مرسوم ملكي من الملك فهد بن عبد العزيز برقم 8/1572 في العام 1404هـ ثم تتابع افتتاح المدارس والأكاديميات والملحقات الثقافية بالدول التي يقطنها أبناء المبتعثين والموفدين السعوديين وأبناء العرب والمسلمين المقيمين في تلك الدول. ٣ – الجانب السياحي: ” أهلاً بالعالم ” شعارٌ انطلق منه في سبتمبر من العام 2019 العمل بالتأشيرة السياحية لمواطني 49 دولة، إن الرؤية المُلهِمة للمملكة 2030 عمِلت على تطوير واستحداث كل ما من شأنه إبراز ثقافة المملكة وثرواتها وما تملكه من تنوع ثقافي وجغرافيٍ هائل يلفِت الأنظار ويسحر الألباب ولا سيما في الجانب السياحي وانفتاح ثقافة المملكة على العالم من حولنا والأمثلة على ذلك تكاد لا تُعد ومنها استقطاب نجوم العالم للعمل في المملكة ونقل صورة إيجابية عنها لدى متابعيهم وشعوبهم ودولهم، وإقامة البطولات العالمية التي تتبعها أنظار العالم أينما ذهبت بمختلف مجالاتها كرالي داكار 2020 وبطولة العالم للملاكمة للوزن الثقيل 2019 وغيرها العديد والعديد ، وإقامة المشاريع الضخمة الغنية عن التعريف والتي ترسم ملامح مستقبل القوة الناعمة المبهرة والضخمة للمملكة العربية السعودية. وختاماً نقول إن ماضي وحاضر ومستقبل المملكة يشِعُّ بسياسة القوة الناعمة الناجحة والمثمرة والمتطورة والتي جاءت رؤية المُلهم أمير الشباب الأمير محمد بن سلمان مكملةً ومدعمةً ومبهرةً في كل ما من شأنه رِفعة المملكة وتلألوئها مُضيأةً بين دول العالم تجمع النجاح وتدعم الروّاد.
مشاركة :