خلط إعلان زعيم حزب الله استجرار سفن النفط الإيرانية إلى مرفأ بانياس السوري ومن ثم نقله بالصهاريج إلى لبنان الأوراق اللبنانية الهشّة. حيث سجّل نصر الله قصب السبق في رفد السوق اللبنانية انطلاقا من بيئته اللصيقة وتوسعاً باتجاه البيئات الأخرى بهذه المادة الحيوية المفقودة التي بدا لبنان بسبب ندرتها واحتكارها وتهريبها أشبه بمنزلق الى فوضى أمنية غير مسبوقة حتى في زمن الحرب الأهلية. وبدا نصر الله في إطلالته النفطية وهو يعلن خبر وصول سفينة المازوت الأولى كهدية وهبة للمستشفيات الحكومية والمؤسّسات الإنسانية والمدنية المشابهة، متجلبباً بعباءة المخلّص الحريص، والمتحسّس الوحيد بمعاناة الناس وآلامهم. وكم كان متكلفاً وهو يعبر عن ضيق صدره من تجرع اللبنانيين كأس الذلّ والمذلة والمهانة في نهاراتهم ولياليهم الطويلة أمام محطات الوقود ليسدّوا بطون سياراتهم ومولداتهم الكهربائية الجائعة بعدة ليترات من الوقود. إذًا، نفد صبر نصر الله، فضرب ضربته الحاسمة، ونفّذ وعده باستجرار النفط الإيراني تاركاً لإعلامه وبيئته الافتراضية التفنّن في تجحيظ الانتصار وتصويره كسراً للحصار المزدوج على لبنان وسوريا معاً، فيما بيئته العضوية تستبقل طلائع الصهاريج بإطلاق الرصاص والقذائف الصاروخية في بعلبك والهرمل. “مسار السفن” النفطية الإيرانية كما سمّاه نصر الله استبق وتزامن مع مسار آخر عبّرت عنه السفيرة الأمريكية في بيروت لاستجرار الغاز المصري والطاقة الأردنية عبر الأراضي السورية، وهو المسار الذي فتح قنوات التواصل الرسمية بين الحكومتين اللبنانية والسورية، كما أعاد الحياة إلى شرايين التنسيق الطاقوي اللبناني السوري الأردني المصري، تزامنا وتوازيا مع وصول أول شحنة من الفيول العراقي إلى معملي توليد الكهرباء في ديرعمار شمالي لبنان، والزهراني جنوبي لبنان. وفيما استجرار الغاز المصري والفيول العراقي يتم عبر الدولة اللبنانية، فإن استجرار النفط الإيراني يتم عبر دولة حزب الله وبعيداً عن الدولة اللبنانية. وفي هذا تكريس لثنائية الدولة والدويلة، وربما الأصحّ لثنائية دولة لبنان، ودولة حزب الله. وقد تكرّست هذه الثنائية في لحظة لامست الهشاشة في الواقع اللبناني المأزوم حدّها الأقصى، قبل أن تسمح الإشارات الخضراء الإقليمية والدولية بتشكيل ميشال عون حكومة الثلث المعطل برئاسة نجيب ميقاتي بعد استعصاء وانسداد سياسي استمر لأكثر من عام. ثنائية مسارات النفط الرسمية والحزبية، كرّست ثنائية الحزب والدولة، وأيضاً تغوّل الحزب على الدولة التي تحوّلت فيها هيئات الحزب ومؤسّساته المختلفة الى هياكل رديفة للدولة بكل مضامينها وخصوصا السيادية منها. ما فعله حزب الله ليس عملية عفوية أو مرتجلة، جلّ ما في الأمر أن حزب الله كجهة مسؤولة عملياً وغير مسؤولة رسمياً عرف كيف يستفيد لأقصى حد ممكن من المتغيرات والتحولات الطارئة في المنطقة وحول العالم، ولكن استجراره للنفط بعيداً عن الدولة جعله يقفز لموقع المتجاسر والمتقدم عليها اقتصادياً أيضاً، سيّما أن الدولة اللبنانية فقدت وظيفتها كساتر كان حزب الله يتلطّى خلفه. ومع سقوط ساتر الدولة أمام حزب الله، سقط الكلام الذي كان يدور حول آلية وضرورة وكيفية “نزع دبس حزب الله عن طحينة الدولة”، التي لم يتبق منها سوى هيكلها المنخور بسوسة الفساد والنهب المزمن والمنظم. أمام هذا الواقع وجد حزب الله الفرصة سانحة له كي يتمدّد باتجاه المناطق المقفلة تاريخياً بوجهه وتحديداً في طرابلس والضنية وعكار بشمالي لبنان. وقد شكل انفجار خزان البنزين في بلدة التليل الذي أودى بعشرات الضحايا والجرحى، أولى طلائع تمدّد الحزب عبر المساعدات التي قرّرها لذوي قتلى الانفجار وجرحاه. لكن التمدّد الأخطر والأوسع لحزب الله سيكون من باب توفير المشتقات النفطية كهبة للمستشفيات والمؤسّسات الإنسانية المشابهة، أو تلك التي ستكون بمتناول الجمهور وبأسعار تفضيلية مقبولة، في لحظة ترفع فيها الحكومة الدعم عن المشتقات النفطية المرتفعة الثمن رسميا وفي السوق السوداء. وهنا تتضاعف مكتسبات حزب الله جرّاء تمدّد نفوذه من جهة، وقبضه ثمن نفطه المبيع كبدل عن تمويل إيران النقدي له من جهة أخرى. ولعلّ في الآلية التي أعلنها نصر الله لتوزيع المشتقات النفطية لطالبيها يكون قد فتح الطريق واسعاً أمام تطبيع علاقات الحزب خصوصاً في البيئات الرافضة له. ما يعني أن حزب الله شكل منافساً رئيساً للقوى السياسية في معاقلها ومناطق نفوذها فضلاً عن الدولة التي بات حزب الله أكثر قدرة على توجيهها وتمكناً من دفّة قيادتها. مسار النفط الحزبلّاهي سيمكن الحزب من اختراق بيئات رافضة له، سيتناسى بعضها خصوصاً ممّن انضووا في حراكات 17 تشرين مقولاتهم ومواقفهم السابقة في تحميل نصر الله قبل حزبه المسؤولية عن الانهيار الاقتصادي والمالي وعن الأمن الصحي والدوائي والغذائي الذي تسبّبت به منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح والتي كانت تعمل وفق معادلة “غطّوا على سلاحنا، نغطّي على فسادكم” وهي المعادلة التي تفرّعت عنها ومنها كل المصائب التي تفتك بالشعب اللبناني، ولا يمكن بأي حال لسفن النفط الإيرانية أن ترتق الفجوة الجهنمية الرهيبة التي أوقعت لبنان فيها “منظومة النيترانيوم والكابتغون”. هذه الأحداث والتحوّلات تشكل انعكاساً عميقاً للتوازنات الدقيقة التي ترتسم في المنطقة والعالم، سيّما بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، كما وقرارها الانسحاب من كامل المنطقة حيث تحاول فرنسا ملء الفراغ. وقد سمح التواصل والتفاهم بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بموافقة أمريكية، مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي بالحديث عن صفقة فرنسية إيرانية. وكان من نتاج “الماكريسية” حتى الآن توقيع شركة توتال الفرنسية عقداً نفطياً كبيراً مع العراق بموافقة واشنطن وطهران، وتشكيل حكومة جديدة في لبنان الذي يتسوّل جيشه بوصفه حامي حمى الكرامة الوطنية، وجبة طعامه من عديد الدول العربية والأجنبية. إنه الجيش اللبناني الذي لم يغب عن إطلالة نصر الله الأخيرة من زاوية استحضاره النادر لحادثة مسيرة حزب الله في الضاحية الجنوبية اعتراضاُ على “اتفاقية أوسلو” في 13 أيلول 1993 ويومها سقط بنيران الجيش اللبناني عشرات الضحايا والجرحى. وهو الجيش الذي يتفاخر نصر الله بأن حكمة حزب الله وتفويته للفرصة في حادثة 13 أيلول جعلته بموقع الحليف للحزب وجعلت نصرالله يوجه الرسائل غير المشفرة للجيش وداعميه معا، ويذكر معادلته حول “الجيش والشعب والمقاومة” التي لا يقرّ نصر الله بفشلها وتعثرها، رغم حادثة راجمة الصواريخ الشهيرة في بلدة شويا الجنوبية. وسط هذا المخاض، وبزمن قياسي، وسحر إيراني فرنسي ساحر، استُولِدت حكومة “الثلث المعطّل” أو “حكومة الصهرين” لصاحبها جبران باسيل برئاسة نجيب ميقاتي الذي تشي طقوس ولادة حكومته بتسوية أين منها “التسوية المشؤومة” بين سعد الحريري وحزب الله وميشال عون. إنها التسوية المتناسلة من “الصفقة الماكريسية” التي أُبرمت من وراء ظهر الدول العربية وخصوصاً السعودية بوصفها الراعي العربي ما قبل الأول لاتفاق الطائف، والتي يُرجح أن تُبقي أبوابها موصدة بوجه نجيب ميقاتي خصوصاً بعد مقابلته مع شبكة CNN، وكم كان ميقاتي بوصفه رمز السيادة ما بعد الأول مدهشاً بقوله “أنا حزين على انتهاك سيادة لبنان، ولكن ليس لديّ خوف من عقوبات عليه، لأن العملية تمّت بمعزل عن الحكومة اللبنانية”. ومن رحم نظرية “النأي بالنفس” الفارغة من كل مضمون حقيقي خصوصا بعدما أطاح حزب الله بها، ومن ثم بصاحبها. استولد نجيب ميقاتي “ثنائية الحزن والفرح”. الحزن على انتهاك النفط الإيراني للسيادة اللبنانية، والفرح على تجنب لبنان من العقوبات التي أخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرضها والتلويح بفرضها على بعض الأشخاص من جديد. لكن يا خوف مالطا من هدير البحر.
مشاركة :