لم تزل زيارة وفد حزب الله الى العاصمة الروسية موسكو، الخبر ما قبل الأول رغم الضجيج الموازي الذي أحدثته نرجسية إطلالة الرئيس اللبناني ميشال عون المتلفزة. وقد بدت فيه دعوته الرئيس المكلف سعد الحريري إلى قصر بعبدا لتشكيل حكومة فورا أو التنحي، أشبه باستدعاء مطلقة إلى بيت الطاعة بهدف ترويضها، أو تثبيت طلاقها. لكن الحريري الذي زار قصر بعبدا للمرة السابعة عشرة لم يتحدث عن ترويض أو طلاق، بل عن موعد جديد الإثنين المقبل. فما كشفته الزيارة عن طلب روسيا من حزب الله ممارسة الضغوط على حليفه ميشال عون لتسهيل تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري هو لزوم التغطية الإعلامية على جوهر المباحثات الروسية الحزبلّاهية. وبحسب “شخصية عربية” وثيقة الصلة بالخارجية الروسية، فإن “استدعاء موسكو حزب الله كان بهدف محدّد هو إبلاغ الحزب رسالة واضحة تتعلق بتموضعات إيران وأذرعها وعلى رأسها حزب الله في سوريا، كما تتعلق بالصواريخ بعيدة وقصيرة المدى”. وتقضي الرسالة الإسرائيلية التي تبلغها الحزب من محاوريه في موسكو “بضرورة خروجه وإخراج ترسانته الصاروخيه من غالبية سوريا وليس من جنوبها فقط”. وللدلالة على جدية ووضوح الرسالة فقد “أبلغ الجانب الروسي حزب الله رفع يد روسيا عنه، وعدم قدرة موسكو على التدخل لمنع إسرائيل من قصفه ومطاردته في كل أرجاء سوريا”. رؤية روسيا لتحقيق هدنة طويلة في سوريا تلحظ وتحفظ مطالب وهواجس إسرائيل الأمنية، وتثير في الوقت نفسه هواجس حلفاء “أبو علي” بوتين كما وصفه جمهور الممانعة قبل أن تغفو راداراته أمام كل غزوة أو غارة يشنّها الطيران الإسرائيلي على مواقع إيران وأذرعها في سوريا. إذن، إنها رسالة الشروط التي تفرضها تحولات التسوية السياسية المرتكزة على ترسيم مناطق النفوذ والسيطرة للقوى الدولية والإقليمية في سوريا. وتضيف “الشخصية” أن زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكينازي موسكو تزامنا مع مغادرة الوفد الحزبلّاهي هي بهدف الاطلاع من نظيره الروسي على موقف الحزب “الذي كان مطواعا ومتجاوبا مع الطلب الإسرائيلي بلسان روسي”. تفكيك أذرعة إيران الخارجية ومنظوماتها الصاروخية يعد في جوهر المفاوضات الإيرانية الأمريكية لمشروع اتفاق نووي جديد بين البلدين. إنها العناصر التي وضعتها الإدارة الأمريكية الترامبية ضمن الشروط الاثني عشر كما عرضها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وهي العناصر التي تبدي الإدارة البايدنية تمسكها بها للعودة إلى الاتفاق النووي معدلا ثم يتبعه رفع العقوبات. أما أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية واهتمام روسيا بتأمين استيلادها برئاسة سعد الحريري يأتي في سياق توفير الحد الأدنى الممكن من الاستقرار العام في لحظة التحولات الدولية التي تنعكس على لبنان كجزء من المنطقة. وتزامنا مع الزيارتين الحزبلّاهية والإسرائيلية إلى موسكو، فقد شهد لبنان زيارة لافتة ومشفّرة جزئيا لقائد القيادة الأمريكية الوسطى الجنرال كينيث ماكنزي الذي التقى قائد الجيش جوزف عون وضباط القيادة في زيارة دعم لجهود الجيش في الحفاظ على الأمن والاستقرار، خصوصا بعد موقف العماد عون غير المسبوق الذي حمّل فيه الرئيس عون وبقية المسؤولين، مسؤولية تداعي الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية وانعكاسها الدراماتيكي على الجيش الذي هو من الشعب، وقد حظي موقف قائد الجيش بتغطية نوعية من البطريرك الراعي الذي رفض وضع الجيش في مواجهة شعبه. أما التشفير الجزئي فكان في زيارة ماكنزي البقاعية التي بدت مثيرة لما هو أبعد من الاهتمام. فقد كشف تفقد ماكنزي بئرا ارتوازية موّلتها وكالة التنمية الأمريكية، عن اهتمام آمر البوارج والأساطيل الحربية في المنطقة والمعزّزة بمقاتلات بي 52 النووية عند اللزوم، بتفاصيل وصول المياه الارتوازية إلى أهالي غزة التي أدخلتها زيارة ماكنزي في معادلات مظهّرة لا مستبطنة، سيما أن جغرافية البلدة تتموضع على خطوط إستراتيجية في البقاع الغربي المتماهي شماله مع البقاع الأوسط الذي يفصل بين البقاع الشمالي حيث معقل حزب الله الديموغرافي، وبين أقصى البقاع الغربي المطل على جنوبي لبنان حيث معقل الحزب الجغرافي وربما الصاروخي، والذي يعتبر صلة الوصل والفصل الرئيسة بين بيروت ودمشق. لكن زيارة جنرال أمريكا القوي بوصفه أحد مهندسي اغتيال جنرال إيران القوي قاسم سليماني، لم تكشف عن أي لقاء مع الرئيس عون، وبدهي أنها لم ولن تكشف عن أي لقاء مع وريثه باسيل المعاقب أمريكيا بتهمة الفساد وفق مندرجات قانون ماغنيتسكي. وسط هذه المناخات، بدا الرئيس ميشال عون في إطلالته المتلفزة أقرب منه إلى رئيس الحكومة العسكرية ولو بقيافة مدنية. فنبرة صوته وتكشيرته ذكرت بحقبة سوداء في تاريخ لبنان، لكنها ماضية مع ميشال عون رغم التحولات التي جعلته “عبر تسوية مشؤومة على لبنان اللبنانيين” رئيسا منتخبا لقصر بعبدا. فالصورة الأحب لقلب ساكن القصر الجمهوري التي سبقت إخراجه من “بيت الشعب” بفعل طائرات الميغ السورية، هي تلك التي حاول بنرجسيته صياغتها عن نفسه علّها تجعل منه ديغولا لبنانيا، لكن نرجسية الوهم جعلته لاجئا لدى أحفاد ديغول في فرنسا. مخاطبة عون المتلفزة لرئيس الحكومة المكلف المغلفة بتحمل المسؤولية الدستورية والوطنية، بدت أشبه بمذكرة جلب، أو استدعاء مُطلقة إلى بيت الطاعة، سيما أنها خلّفت موجة غضب واشمئزاز من قبل نخب لبنانية واسعة. صحيح أن الرئيس عون يحيط نفسه بكوكبة مستشارين يرفدونه بالنصائح والتكتيكات السياسية والمخارج القانونية والفتاوى الدستورية. لكن الصحيح أيضا أن إطلالة عون الأخيرة كانت من بنات أفكاره عارية من كل تجميل لغوي أو أناقة سياسية أو فقاهة دستورية. إطلالته كانت تشبهه كما عرفه اللبنانيون ذات تصريحات أطلقها فجلبت عليه بعد لبنان الويلات والحروب والدماء. “حرب إلغاء جديدة” توصيف اُطلق على طريقة استدعاء عون المتلفز لسعد الحريري بهدف تشكيل حكومة فورية. في حين أن حرب الإلغاء الحقيقية هي تلك التي يتعرض لها الشعب اللبناني تجويعا وإفقارا، ونهبا لأموالهم واغتيالا لمستقبلهم وآمالهم وطموحاتهم من قبل أطراف منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح وهم يتصارعون على متن سفينة مثقوبة، على تناتش حقوق موهومة باسم الطوائف والمذاهب. في حين أن الجوع والفقر وتداعي الاقتصاد وانهيار قيمة الليرة، عناصر وحدت اللبنانيين ولم تفرقهم بين الطوائف والمناطق كما يفعل ويجهد بإمعان مقيت تحالف الفساد والترهيب والأمونيوم. لكن هل المقدمات التي سبقت إطلالة عون تؤدي إلى ما ذهب اليه ساكن القصر الجمهوري؟ لقد كشف موقف عون اهتزازا عميقا في علاقته وتياره مع حزب الله شريكه في تفاهم مار مخايل الذي يتفق طرفاه على فشله خصوصا في مجال بناء الدولة، ويختلفان على أسلوب مقاربة تطويره التي يريدها زعيم حزب الله في الغرف المغلقة، في حين جعلها زعيم التيار الوطني الحر مشاعا لمنصّات الإعلام. وقد عزّز المقاربات المختلفة لترميم العلاقة بين طرفي التفاهم استشعار الرئيس عون وصهره جبران باسيل بعزلة عربية ودولية تلفهما وتتهمهما بعرقلة تشكيل حكومة مهمة لانقاذ لبنان بسبب إصرارهما على الحصول منفردين دون حلفائهما على الثلث المعطل الذي أقر في اتفاق الدوحة عقب غزوة بيروت في 7 أيار مايو2008، وهو الثلث الذي أفتى نصر الله بعدم جواز امتلاكه من أي طرف كان. زيارة حزب الله الروسية، أشعرت ميشال عون بوطأة العزلة العربية والدولية عليه، سيما أن موفده وجبران باسيل إلى موسكو النائب السابق أمل أبو زيد لم يلق من نائب وزير خارجية روسيا ميخائيل بوغدانوف الأذان الصاغية، عندما اعتبر بحسب مصادر متابعة أن “الثلث المعطل” هو مفتاح تكريس حقوق المسيحيين. وهو ما كان محل تداول لأكثر من ساعتين بين باسيل والسفير الروسي في بيروت ألكسندر روداكوف الذي تداول مع باسيل في صورة موقف روسيا من تشكيل الحكومة والتحولات في المنطقة انطلاقا من سوريا. وقد ضاعفت معطيات لقاء باسيل مع السفير الروسي من توتر إطلالة الرئيس عون في لحظة بلغ فيها سعر الليرة أمام الدولار انهيارا غير مسبوق، وارتفعت فيها أصوات شرائح واسعة من اللبنانيين تحمل عون وأطراف المنظومة مسؤولية الانهيار الاقتصادي الذي بدأ يهدّد الأمن الاجتماعي الذي حوّل بعض الوحدات الأمنية إلى مشرفين على توزيع مواد غذائية مدعومة في المحال والأسواق الكبيرة التي أقفلت غالبية أبوابها، ما وشى باهتزاز الوضع الأمني مع بروز إشكالات مسلحة متنقلة. عوامل تجمعت فوق قصر بعبدا الذي بات مقصدا للمتظاهرين، ما دفع الرئيس عون الى إلقاء قنبلته الصوتية الدخانية لمحاولة إشغال اللبنانيين بموضوع استعادة حقوق المسيحيين، فيما المسيحيون باتوا يعتقدون قبل غيرهم أن الحقوق كما يعنيها عون هي إنتاج تسوية تضمن مرورا آمنا لصهره باسيل إلى كرسي قصر بعبدا الذي قصفته طائرات الميغ السورية لإخراج ميشال عون الرافض لاتفاق الطائف منه، فهل تكرر التجربة هذه المرة طائرات السوخوي الروسية بسبب رفض الرئيس عون وصهره تشكيل حكومة لا يحظيان فيها بالثلث المعطل؟ لا أعرف لماذا تذكرت خطاب نصر الله (في سياق تطويبه قاسم سليماني قديسا) وروايته لكيفية إقناع الجنرال سليماني للرئيس الروسي فلاديمر بوتين بالتدخل في سوريا.
مشاركة :