بدت البصمة الصوتية الحادة التي صبغت خطاب زعيم حزب الله، يوم الإثنين الماضي، ومعادلته الجديدة “إما قبع القاضي طارق البيطار وإما الكارثة”، بدت متطابقة مع بصمة خطابه ذات 7 أيار مجيد، على خلفيّة رفضه مساس حكومة فؤاد السنيورة بشبكة اتصالات الحزب كما ورفض قبع رئيس جهاز أمن المطار العقيد وفيق شقير يومذاك. معادلة “إمّا قبع البيطار وإمّا الكارثة” التي رماها نصرالله في وجه الجميع بدءاً برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء إلى القوى السياسة كافة، فضلاً عن الرأي العام وخصوصاً أهالي ضحايا انفجار المرفأ، فوضع من خلالها نصرالله البلاد على فوّهة بركان. إنها المعادلة التي اضطر نصرالله إلى رميها بنفسه بعدما لمس أن رميها عبر ذراعه الأمنية اليمنى وفيق صفا لمجلس القضاء الأعلى والمحقق العدلي لم تؤت أكلها، بل إنها ارتدت سلباً على صورة نصرالله وحزبه. ويبدو أن هناك ما هو أخطر من الارتداد سلباً ذاك الذي دفع نصرالله الى رمي معادلته الترضيخية والابتزازية للجميع “إمّا قبع البيطار أو الكارثة” إلى الشارع مستخفاً بالأصوات التي قالت له “إن مقابل الشارع شارع آخر” والتي ردّ بها رئيس الجمهورية على وزير الثقافة محمد مرتضى عندما خاطب عون ومجلس الوزراء بلغة فوقية تهديدية متغطرسة أدّت إلى رفع الجلسة، وإلى تعطيل جلسات مجلس الوزراء حتى إقالة البيطار. إنّه “فائض القوة” التي يستخدمها حزب الله في كل مرة يحتاج فيها إلى فرض شروطه وإملاءاته، واليوم على حليفه القوي ميشال عون. كلام نصرالله استتبع بدعوة الثنائي الشيعي إلى تظاهرة احتجاجية أمام قصر العدل بهدف الإطاحة بالمحقق العدلي، وقد رافق الدعوة إلى التظاهرة الكثير من التسجيلات الصوتية التهويلية، ما رفع منسوب التوتر الطائفي، وجعل مشهدية 7 أيار تقفز إلى مخيّلة اللبنانيين من جديد، لا سيّما وأنّ مظاهرة الإطاحة بالقاضي بيطار قد انحرفت عن أهدافها ومساراتها ومسالكها المحدّدة مسبقاً إلى منزلقات خطيرة دامية خلّفت عدداً من الضحايا والجرحى في مشهد مروّع استعاد كل طقوس الحرب الأهلية، لعلّ أبرزها إعادة ترسيم خطوط التماس التقليدية، بجدران مرتفعة من الباطون نصبها الجيش اللبناني لتفصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية بشهادة فؤاد أبو ناضر وهو يتفقد المنطقة، كما كشفت عن فشل نظريات “الأمن الاستبقاقي”الرسمي والحزبلّاهي والتي سبق وتفاخر بها ميشال عون الرئيس. وحتى جلاء التحقيق في كشف ملابسات أحداث الطيونة وشيوع مظاهر السلاح وقواذف الأر بي جي والقناصين، يمكن القول أنّ حزب الله الذي هو في تكوينه منظمة أمنية عسكرية عقائدية تمتلك أذرعاً سياسية واجتماعية وإعلامية واقتصادية، ومؤخراً مازوتية، قد تلقّى ضربة خطيرة هزّت مقدراته الأمنية والمعلوماتية التي لطالما تميّز بهما، وكشفت أن فائض القوة يرتد على صاحبه عندما ينزلق على “قشرة موز”في تضاريس الجغرافيا والدينوغرافيا اللبنانية المعقّدة. مشكلة حزب الله ربما، أنّه لم يميّز بين “فائض الإحترام” الذي رفده به اللبنانيون عامة عندما كان مقاومة تزرع العبوات في آليات ومواقع الاحتلال الإسرائيلي، وبين “فائض القوة” الذي يريد ترضيخ اللبنانيين به. ويبدو أن حزب نصرالله فشل وأخفق في الحفاظ على احترام اللبنانيين، لا سيما بعد محاولته تجيير هذا الاحترام لإيران وهذا ما لا يوافقه عليه شركاؤه في لبنان، تماما كما أخفق غير مرة في استخدام فائض القوة الذي لا يتناسب مع تضاريس الداخل اللبناني. “إمّا قبع البيطار أو الكارثة” ثنائية متناسلة من ثنائية “تغوّل فائض القوة على فائض الاحترام”. وهي الثنائية المختلفة عن ثلاثية نصرالله الذهبية “الشعب والجيش والمقاومة”، والمختلفة أيضاً عن “رباعيات اللهيان” وزير خارجية إيران التي أطلقها من بيروت “الحكومة والشعب والجيش والمقاومة”، والمختلفة أيضاً عن ثنائية “تفاهم مار مخايل” الذي دفنته أحداث الطيونة رغم محاولات جبران باسيل رفده بالكثير من الإنعاش الوهمي حتى أماته موتة أخرى عندما خيّر اللبنانيين بين “مار مخايل والطيونة”. وقد أثبتت الوقائع السياسية والميدانية الأخيرة أن “الثنائية الشيعية” هي الثنائية الحقيقية الحاكمة لكل الثنائيات والثلاثيات والرباعيات. ولهذا السبب بدا الثنائي الشيعي زاهداً في عدم امتلاك “الثلث المعطل” الذي تعطّل تشكيل الحكومة بسببه لأكثر من عام، ولم يفرج عن تشكيلتها الا بعد حصول جبران باسيل عليه.”الميثاقية”، كانت بديل الثلث المعطل. فتغيّبْ وزراء الثنائي الشيعي عن جلسات الحكومة تكفّل لوحده بتعطيلها، دونما أدنى حاجة لثلث العهد المعطّل. أحداث الطيونة صدمت حزب الله الذي يتعاطى بفعل فائض القوة باستعلاء واستخفاف مع الجميع. فقد توّهم نصرالله أنه يتفرّد بامتلاك حيثية الشارع وتحريكه عسكرياً، كما توّهم أن تهديده بـ “الكارثة” سوف يلجم الجميع ويجعلهم ينصاعون لمشيئته خوفاً من الوقوع فيها، غافلاً عن تسلح خصومه بقول الإمام علي “إذا هبت شيئاً، فقع فيه”. لقد اعتقد نصرالله أن التهويل بالعصا الطويلة دون استخدامها كفيل لوحده بإخافة خصومه ودفعهم الى التراجع. لكن واقعة الطيونة بيّنت خلاف ذلك. صدمة الطيونة لحزب الله كشفت أنه لم يتعلم من مشكلته مع عرب خلدة، كما أنه لم يستوعب حقيقة الدرس الذي أصاب مقاوميه وراجمة صواريخه في بلدة شويا، وعلى الأرجح أنه سيستمر في مكابرته وتمترسه خلف فائض القوة بعد أحداث الطيونة التي ربما تأتي رياح التحقيقات فيها بشكل مخيّب لما يروّج لهإعلامه وساسته الذين يشيحون بنظرهم عن إنزلاق مسيرة الإحتجاج خلافاً لخط سيرها باتجاه قصر العدل في زواريب عين الرمانة، ولهذا نجدهم يحاولون إلباس أحداث الطيونة بكلها وكلكلها الى سمير جعجع مرتكزين على أن “جسمه لبيس”، ويتبارزون في نبش ماضيه متناسين تصويتهم لصالحه بقانون العفو لإخراجه من السجن الذي دخله بانفجار كنيسة سيدة النجاة ليؤبّد فيه باغتياله رشيد كرامي، وفي هذا يقدمون لجعجع هدية غير منتظرة، سيّما وأن هذا الإلباس لجعجع بقدر ما يعني تعرية لميشال عون وجبران باسيل، بقدر ما يشكل إقراراً معلناً من الحزب أن تفاهم “مار مخايل” لم يعد يوفّر الأمان للمنطقة الشرقية التي لم تجد حامياً لها من 7 أيار مسيحي إلّا جعجع.ربّ قائل أنمصلحة حزب الله والثنائي الشيعيباتت تقتضي تزعيم جعجع على المسيحيين نكاية بوكليه في قصر بعبدا ووريثه في التيار الوطني الحر. اللافت في أحداث الطيونة تزامنها مع زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند التي لم تبد أي اهتمام يذكر سوى بملف “ترسيم الحدود مع اسرائيل”، ما عزّز مناخاً يتحدث عن إقرار أميركي بنفوذ واسع لإيران في لبنان، بدءاًمن السماح بتشكيل حكومة تضمّ حزب الله، تزامناً مع تمرير صهاريج المازوت الإيراني دونما معوقات، توازياً مع السماح باستجرار الغاز المصري والطاقة عبر الأردن وسوريا، وانتهاءاً بغضّ النظر عن تطبيع بعض الدول العربية لعلاقاتها مع دمشق. إقرار الولايات المتحدة بنفوذ إيران في لبنان، لم يقابله تسليم إيران وذراعها اللبناني بنفوذ واشنطن في لبنان، وهنا يمكن فهم الرسالة غير المشفرة التي بثّها رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله هاشم صفي الدين وقوله “.. حتى الآن لم نخض معركة إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من أجهزة الدولة، ولكن إذا جاء اليوم المناسب وخضنا هذه المعركة، سيشاهد اللبنانيون شيئاً آخر..”.ومن زاوية استئصال النفوذ الأمريكي من أجهزة الدولة علينا النظر الى مطالبة حزب الله بقبع المحقق العدلي، وهو القبع الذي بدأ يلوح أيضاً فوق مجلس القضاء الأعلى ورئيسه سهيل عبود بجرم تبعية مماثلة، كما وشت الكثير من التسجيلات المتداولة أنه أخذ يلوح فوق الجيش اللبناني وقائده جوزيف عون. “التبعية للأجنبي” المتناسلة من “العمالة للإسرائيل”، سلاح حزب الله الجديد في تطويع وإخضاع كل من لا يدور بفلكه. وفي حين يأخذ الحزب على البيطار استنسابيته وتسييسه، فإن الحزب يُخضع سلاح التبعية للأجنبي والخليجيوالعمالة للإسرائيلي لاستنسابية مفرطة لا داع لتعدادها حتى لا يتعكر أكثر مزاج تفاهم مار مخايل. ولربما تفيد الإشارة بأنّ حزب الله هو أكثر من استخدم ويستخدم الإستنسابية التي تعتبر من أبرز أسلحة مناوراته السياسية والإعلامية. مع توارد الأنباء عن انتشار مسلحين ملثمين على مفترقات جبلية وساحلية، يتموضع لبنان على مفترق طرق تتجاوز خطورته مسألة استمرارية حكومة الميقاتي الماكريسية او استقالتها أو بقائها معلّقة على خشبة التعطيل حتى يتأمن الرضوخ بإقصاء البيطار أو انتحاره والقضاء معاً بالتنحي الطوعي على غرار “التنحي الطوعي” للمتحدث باسم أهالي ضحايا إنفجار المرفأ ابراهيم حطيط، أو اضطرار حزب الله الى معالجة الأمور على طريقته، ومن ضمنها إحالة أحداث الطيونة الى المجلس العدلي بهدف تأمين مضبطة اتهام جديدة تعيد سمير جعجع الى السجن وليس فقط علي حسن خليل وبقية مطلوبي المحقق العدلي، وتدخل سليمان فرنجية وليس جبران باسيل الى قصر بعبدا.. هذا اذا حصلت الانتخابات وجاءت نتائجها مرضية لحزب الله خلافاً لنتائج الانتخابات العراقية.
مشاركة :