'وردة من دم المتنبي' وقضايا الشعر المعاصر

  • 9/24/2021
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

تثير قصائد الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردّوني بعض القضايا الفنية والنقدية المهمة في حياتنا الشعرية المعاصرة. من هذه القضايا قضية الشكل والمضمون، وقضية العمودي والتفعيلي، وقضية التعبير بالصورة الشعرية وقضية اللغة الشعرية، وقضية التلقي الشعري .. وغيرها من القضايا. ونحن لا نزعم أننا سوف نتناول كل هذه القضايا بالإسهاب أو الشرح والتعليق المستفيض جملة واحدة، ولكننا من خلال قصيدته "وردة من دم المتنبي" سوف نشير – حسب معطيات النص نفسه – من بعيد أو قريب إلى بعض هذه القضايا. وقصيدة "وردة من دم المتنبي" نشرت في بعض الصحف  والمجلات العربية في تواريخ مختلفة، إلا أننا نرجع عند قراءتنا لها إلى مجلة "أدب ونقد" في عددها الأول الصادر في يناير 1984. وأول ما نلاحظه على هذه القصيدة أنها كتبت على الشكل العمودي الذي اعتمد على بحر الخفيف التام، إلا أنه من الملاحظ للقارئ أن المضمون الذي حملته القصيدة جاء مضمونًا معاصرًا، وليس تقليديًّا، بمعنى أن لا نلاحظ هذه التعبيرات المستهلكة أو الجاهزة أو القديمة، كما لا نلاحظ وجود هذه الصور الشعرية التي بُليت من كثرة الترديد والتكرار، ولكننا نلاحظ وجود تعبيرات جديدة كل الجدة، ومبتكرة بوعي وتمحيص يؤكدان موهبة الشاعر الكبيرة والأصيلة التي ترفض كل تعبير جاهز وكل صورة مكررة وكل إيقاع قديم. وعلى الرغم من أن الإيقاع - أو الموسيقى - جاء من البحر الخفيف – في صورته التامة – كما ذكرنا من قبل، فإننا نلاحظ أن هناك جدة في الإيقاع وتنوعًا في الموسيقى التي تحمل تلك الشحنة الشعورية أثناء إبداع القصيدة. ونحن نلاحظ منذ أول أبيات القصيدة أن الشاعر يعتمد على ما يسمى بالتصريع بين كاد يعمى ولا يسمّى، والتصريع – كما نعرف – من أخص خصائص الشكل العمودي خاصة عندما يكون في افتتاحية القصيدة، وبهذا التصريع يفتتح الشاعر قصيدته: من تلظى لوعه كاد يعمى ** كاد من شهرة اسمه لا يسمَّى ليوهم المتلقي أن قصيدته ستكون من الشعر التقليدي الكلاسيكي الذي يعتمد الشاعر فيه على الإيقاعات التي كثيرا ما تكون إيقاعات مجردة أو خالية من أي معان مبتكرة وأي خيال جديد. وعلى الرغم من أن القصيدة يصل عدد أبياتها إلى ثلاثة وثمانين بينا، فإن الشاعر استطاع أن يحافظ على لياقته الإبداعية وعلى طول نفسه الشعري من خلال تعامله مع قافية الميم الممدودة اللهم إلا في بيت واحد هو البيت 52 حيث خرج به الشاعر عن انتظام وتواتر هذه القافية حيث يقول في هذا البيت: أنا أبغى يا سيوف أقضي وأهوى ** أسهما من سهام كافور أمضى والذي أتوقعه – في هذا الصدد – هو أن يكون هناك خطأ مطبعي، لأن هذه القافية هي النشاز الوحيد في السيمفونية التي التزم الشاعر بها طوال أبيات القصيدة أو التزم بها 82 مرة خلافا للتصريع الذي حدث في البيت الأول، وأيضا في البيت 52 الذي يقول فيه الشاعر: هل ثقاة الورى يموتون زعما ** يا منايا .. كما يعيشون زعما وإذا خرجنا من قضية القافية التي التزم بها الشاعر، ودخلنا إلى منطقة التعبيرات الجديدة والمبتكرة التي جاء بها الشاعر، فأننا سنلاحظ وجود كم وفير من التعبيرات والصور غير المألوفة في شعرنا العمودي المعاصر، لذا فأنك تحس عند قراءة مثل هذه القصيدة وغيرها لعبدالله البردّوني أنك تقرأ شعرا حديثًا أو شاعرًا معاصرًا بالمفهوم الواسع الذي ارتضاه كثير من النقاد والشعراء للشعر التفعيلي أو الشعر الحديث. من هذه التعبيرات الشعرية نذكر على سبيل المثال: ـ حاملا عمره بكفيه رمحا (البيت 3) ـ خالعا ذاته لريح الفيافي (البيت 5) ـ البراكين أمه .. صار أما للبراكين (البيت 8) ـ همّت به المنايا وهمَّا (البيت 4) ـ أورق الحبر كالربى في يديه (البيت 16) ـ يحمل السوق تحت إبطيه (البيت 33) ـ شاخ في نعله الطريق (البيت 53) وبالطبع فإن جدة وطرافة مثل هذه التعبيرات والصور لا ينظر إليها على حدة، ولكنه ينظر إليها من خلال السياق الشعري العام للقصيدة، وهل هي في مكانها الصحيح أم أنها مجرد حلية جميلة فقط؟ وأستطيع أن أقول إن الشاعر البردّوني لا يأتي بالتعبيرات والصور الجديدة لكونها جديدة أو جميلة، ولكن ينظر أولا إلى موقع هذه التعابير وهذه الصور من القصيدة، وهل هي لصيقة بها، ومن بيئة القصيدة نفسها، أم أنها وافدة ودخيلة على القصيدة؟ لذا فإن من يقرأ قصائده، خاصة مثل هذه القصيدة التي بين أيدينا سيكتشف أن تعابيره وجمله وصوره الشعرية منتزعة من واقع القصيدة نفسها ومأخوذة من الجو العام الذي تفرضه القصيدة على مبدعها أولا. ويتضح من العنوان "وردة من دم المتنبي" أن القصيدة ستدور في فلك المتنبي شاعر العروبة الكبير والذي كاد من شهرة اسمه لا يسمّى، والذي جاء: حاملا عمره بكفيه رمحا ** ناقشًا نهجه على القلب وشما والذي جاء:  عسكر الجن والتنبؤ فيه ** وإلى سيف قرمط كان ينمى والذي: صار أمًّا للبراكين للإردات عزما أرأيت هذا التعبير الشعري الرائع في البيت الثامن:  البراكين أمه .. صار أما للبراكين للإرادات عزما فمن قبل كانت البراكين أمه، أي كانت الأحداث العظيمة والانفجارات الهائلة والثورات هي التي تصنعه، ولكن صار المتنبي أمًّا لهذه البراكين، أي صار هو الذي يصنع أو الذي يلد (لوجود كلمة أم) هذه البراكين، أي هذه الأحداث وهذه الانفجارات وهذه الثورات، أي صار المتنبي هو الذي يصنع التاريخ وهو الذي يصنع الثورات بل ويصبح لها أما من وجهة نظر الشاعر البردّوني. وأعتقد أن البيت الحادي عشر في شطره الثاني الذي يقول فيه الشاعر عن المتنبي: إنه يعشق الخطورات جما  جاء في غاية الضعف إذا ما قورن بـ صار أمًّا للبراكين، لأنه من الطبيعي ومن المنطقي أن الذي يصبح أمًّا للبراكين أن يعشق الخطورات جما. المتنبي الذي: كل أحبابه سيوف وخيل ** ووصيفاته أفاعٍ وحمّى وهو الذي: شاخ في نعله الطريق، وتبدو ** كل شيخوخة صبا مدلهما ويعود البردّوني مرة أخرى في البيت 62 ليؤكد على الحقيقة الشعرية التي توصل إليها في البيت الثامن من القصيدة بشأن المتنبي الذي صار أمًّا للبراكين وذلك في تساؤله: للبراكين كان أمًّا .. أيمسي ** لركام الرماد خالا وعمّا ولسنا في حاجة لنذكر القارئ بهذه المقابلة المنتزعة من بيئة القصيدة بين: البراكين والركام والرماد، وبين الأم وشدة تعلقها بمثل هذه البراكين، لأنها هي المتسببة في وجودها أو لأنها هي والدتها، أو هي التي أوجدتها وبين الخال أو العم بالنسبة لركام الرماد. هذا هو المتنبي الذي قال عنه الشاعر البردّوني في ختام القصيدة: جرب الموت محوه، ذات يوم ** وإلى اليوم يقتل الموت فهما والقصيدة ليست قصيدة في ذكرى المتنبي، أي ليست قصيدة مناسبات لأن المتعمق فيها سيجد أن المتنبي هنا ما هو إلا رمز للعروبة ورمز للعربي الأبي المقاتل، وأنه هو المجد الزائل القائم معًا؛ الزائل أي الذي كان موجودًا بوجوده، والقائم الذي هو موجود ولكن بحاجة إلى إزاحة التراب من فوقه وبحاجة إلى تغيير شامل: آه يا ابن الحسين .. ماذا ترجي ** هل نثير النقود يرتد نظما؟ من حديث الرموز ترمي سيوفا ** عاريات .. فهل تحديت ظلما؟ كيف تدمي ولا ترى لنجيع ** حمرة تنهمي رفيفا وشما كان يهمي النبات والغيث طل ** فلماذا يجف والغيث أهمى هل أسمي حكم الندامى سقوطا ** ربما قلت لي: متى كان فخما؟ أين ألقى الخطورة البكر وحدي ** لست أرضى الحوادث الشمط أما أنا أبغي يا سيوف أقضي وأهوى ** أسهما من سهام كافور أمضى شاخ في نعله الطريق، وتبدو ** كل شيخوخة صبا مدلهما وعلى الرغم من جدة التعبيرات وطرافة الصورة الشعرية التي ابتكرها وجاء بها البردّوني، والتي تحيلنا وتذكرنا ببعض ما يبتكره شعراء التفعيلة المجددون من أمثال: أدونيس وعبدالصبور ودنقل والسياب وسامي مهدي .. وغيرهم، فإن قصيدة "وردة من دم المتنبي" لم تزل تحمل تلك الحكمة التي تتمتع بها قصائد الشعر العربي القديمة، وخاصة قصائد المتنبي نفسها، فالحكمة كما يقول الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة في كتابه "أصداء وأصوات" تعد "غرضا أساسيا من أغراض الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى عصوره المتأخرة. لقد عرف الشعر فن الحكمة منذ هجست في روح الشاعر هذه الوساوس والظنون والمخاوف حول حياته ومصيره. والحكمة تتجاوز الصواب والخطأ بالمعنى العلمي للصواب والخطأ. إن الحكمة هي الإدراك الكلي السليم للجزئي في علاقته بالكلي غير معزولة عن المكان والزمان متضمنة المادي في تطلعه إلى المعنوي". والحكمة في قصيدة "وردة من دم المتنبي" ليست مجرد أبيات شعر مرصوصة ليست لها علاقة بموضوع القصيدة، ولكن هذه الحكمة جاءت مثلها مثل بقية أبيات القصيدة تماما، بل أننا نحس بأن أبيات الحكمة جاءت كصور من صور المعادلات الرياضية أو المعادلات الكيميائية التي تعطينا مقدمات لنخرج منها بنتائج. وربما تأتي الحكمة على هيئة سؤال يفيد الاستنكار، وذلك مثل قول الشاعر: هل يرى غير ما ترى مقلتاه ** هل يسمى تورم الجوف شحما؟ وأيضا مثل الشطر الثاني للبيت 44: آه يا ابن الحسين .. ماذا ترجى ** هل نثير النقود يرتد نظما؟ وقد تأتي الحكمة في صورة تقريرية كما في الشطر الأول من 66: خافض الصوت .. للعدى ألف سمع ** هل ألاقي فدامة القتل فدما؟ والشطر الثاني من البيت 73: هل يصافي شتى وجوه التصافي ** للتعادي وجه، وإن كان جهما ونستطيع أن نلاحظ أن الشاعر قد استخدم التضمين أو التدوير في بعض أبيات القصيدة، في الأبيات: 32 – 33 – 63 – 64 حيث علَّق القافية ليتم المعنى في البيت التالي، وذلك في قوله: يتبدى مبغى هنا، ثم يبدو ** معبرا ها هنا .. وبرجين ثما يحمل السوق تحت إبطيه يمشي ** بايعا شاريا نعيا ويتما وفي قوله: حلب يا حنين .. يا قلب تدعو ** لا ألبي يا موطن القلب مهما  أبتغي اشتهي عالما سوى ذا ** جمالا غير هذا .. وغير ذا الحكم حكما وقد اعتبر النقاد العرب أن التضمين من عيوب القافية، واعتبروه قبيحا إن كان مما لا يتم الكلام بدونه، ومقبولا إذا كان فيه بعض المعنى، لكنه يفسر بما بعده. وأنا أعتبر أن هذه القضية في الشعر العربي أصبحت غير ذي بال الآن، ولكنها ملاحظة أردنا أن نوردها لندلل على أن الشاعر البردّوني استطاع أن يستفيد من الخبرات الشعرية السابقة حتى وإن كانت هذه الخبرات مما يأخذه النقاد القدماء على شعرائهم، وأعتقد أن كثيرا من قصائد شعرنا المعاصر، وخاصة الشعر التفعيلي، قد استخدمت مثل هذا التضمين والتدوير في سطور متعاقبة والأدلة على ذلك كثيرة، بل قرأنا الكثير من القصائد المدورة التي تصل إلى عدة سطور متوالية أو متتالية. أيضا من الملاحظات على هذه القصيدة استخدام الشاعر لأكثر من نوع من الحوارات، ولكنها على أية حال ليست حوارات درامية – بمفهوم الدراما المسرحية أو الدراما الشعرية في المسرح الشعري التي تعتمد على الصراع – ومن أنواع هذه الحوارات، هذا الحوار الذي دار بين الشاعر البردّوني والشاعر المتنبي، حيث انطق البردوني المتنبي في هذه القصيدة ليجيب على بعض الأسئلة. من تداجي يا ابن الحسين؟ أداجي ** أوجهًا تستحق ركلا ولطما وهنا نلاحظ أن الإجابة جاءت حاسمة وقاطعة، لأنها جاءت على لسان المتنبي، وهذه الإجابة الحاسمة القاطعة كان الشاعر ذكيا جدا في الإتيان بها على هذا النحو لأنها ربما تدل على شخصية المتنبي نفسه من وجهة نظر البردّوني. أما النوع الآخر من الحوارات فإنه حوار الاحتمال أي أن الشاعر يُلقي السؤال، ويجيب هو بنفسه ربما يعتقد أن المتنبي من الممكن أن يوافق على هذه الإجابة. إن استخدام "ربما" هنا تدل على أن الإجابة فيها نوع من الاحتمال، ونؤكد هنا على أن الإجابة تأتي على لسان الشاعر نفسه، وليس على لسان المتنبي، لأنها لو جاءت على لسان المتنبي لكانت حاسمة وقاطعة أكثر. وهنا نلاحظ أن المقابلة بين (سقوط وفخما) لم تكن قوية. أما النوع الثالث من الحوارات في هذه القصيدة فهو ليس بين الشاعر والمتنبي، وليس بين الشاعر ونفسه، ولكن بين قوم وقوم أو بين شخص واحد ومجموعة من الأشخاص: قيل أردوه .. قيل مات احتمالا ** قيل: همَّت به المنايا وهمَّا قيل: كان الردى لديه حصانا ** يمتطيه برقا، ويبريه سهما إن فعل الأمر (أردوه) إما يدل على شخص واحد يعطي الأمر، وهو شخص كاره وعدو للمتنبي، وقد يكون "كافور" الأخشيدي، وإما أنه مجموعة من الأشخاص، وقد يكونون مجموعة من الشعراء الذين تحدث عنهم المتنبي في قصيدته "واحرّ قلباه": سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ** بأنني خير من تسعى به قدمُ ولكنني أرجح كافورا لأن اسمه جاء صراحة في البيت 52: أنا أبغي يا سيوف أقضي وأهوى ** سهما من سهام كافور أمضى ولعلنا قد لاحظنا هذا القطع الذي استخدمه البردوني في قوله: أردوه. ولم يتم المعنى، لأن المعنى الكامل المتعارف عليه هو "أردوه قتيلا"، وأعتقد أنه كان موفقا في عملية القطع هذه لأنها تدل على أن الأمر جاء سريعا ومتعجلا وحاملا لكم هائل من الكراهية والحقد والضغينة والحسد، لدرجة أن هذا الشخص – أو مجموعة الأشخاص – لم يرد إتمام الصيغة اللغوية المتعارف عليها في "أردوه قتيلا". ومن الملاحظات المأخوذة على القصيدة، أو على بعض أبياتها كلمة "روما" في البيت 77: تحت أضلاعه (ظفار) و(رضوى) ** وعلى ظهره أثينا ورَوْما لأننا سنضطر إلى لوي رقبة الكلمة ونطقها رَوْما (بفتح الراء والوقوف على الواو الساكنة) مع أن الكلمة تنطق في كلامنا المألوف رُوما (بضم الراء وعدم إبانة الواو هذه الإبانة الواضحة عند النطق السابق لها). إننا سنضطر لأن ننطقها رَوْما حتى تستقيم القافية في نهاية هذا البيت مع بقية قوافي الأبيات كلها. وهنا نذكر أن القافية التي يستخدمها البردوني هي قافية "المتواتر" حيث يقع متحرك واحد بين ساكني القافية، والكلمة في حد ذاتها ليست بها عيب من عيوب القافية، ولكني أعتقد أن العيب في الذوق. وربما الشيء نفسه يقال عن باب توما في البيت 78: يجتلي في جماله (الكرخ) يرنو ** من تقاطيع وجهه "باب توما" وعموما هذه ملاحظ شكلية لا أكثر ولا أقل، ولا تقلل إطلاقا من روعة وجمال القصيدة.  ونحن إذا كنا قد بدأنا افتتاحيتنا السابقة بقولنا إن قصائد البردوني من الممكن أن تثير حولها العديد من قضايا الشعر العربي المعاصر، فإننا من خلال دراستنا ومعايشتنا لقصيدة "وردة من دم المتنبي" نستطيع أن نخرج بالنتائج التالية: 1 – إن مشكلة التعبير الشعري لا تكمن في شكل القصيدة، وهل هي من الشكل التقليدي أم الشكل التفعيلي أو حتى شكل الموشح أو الدوبيت أو حتى الزجل، بقدر ما تكمن هذه المشكلة في الشاعر نفسه ومدى عطاءاته في أي شكل من الأشكال، ولقد لاحظنا أن البردّوني يستخدم الشكل العمودي أو التقليدي. وهنا مصطلح التقليدي ليس انتقاصًا للشكل العمودي، ولكنه اصطلاح نقصد من ورائه هذا الشكل المتعارف عليه، المقننة قواعده، المفهومة أصوله ولعبته، والذي أصبح جاهزا للاستخدام، وأن أي خروج عليه سيحيلنا إلى شكل جديد يحتاج إلى نوع من التقعيد الشكلي ونوع من التمهل حتى نحكم عليه، شأنه في ذلك شأن الشعر التفعيلي الآن. نعود فنقول إن البردّوني وهو يستخدم هذا الشكل استطاع أن يقول كل ما عنده، واستطاع أن يبتكر صورًا جديدة ومعاني عميقة في هذا الشكل الجاهز. 2 – إن اصطلاح الصورة الشعرية ليس مقصورًا في استخدامه على الشعر الجديد، فكل شعر جيد، أعتقد أنه يحمل كمًّا من الصور الشعرية المنتزعة من بيئة القصيدة نفسها لتعطينا بُعدًا جديدًا، وتضفي على القصيدة قدرا من الحركية المطلوبة، وهذا ما لاحظناه على قصيدة "وردة من دم المتنبي". 3 – أما قضية اللغة الشعرية فنحن نتفق على أن اللغة هي اللغة في الشعر أو في المسرح أو في القصة أو في الحوار الفني، ولكن يبقى لهذه اللغة في الشعر حساسيتها الخاصة، وتعاملها الخاص. وقد لاحظنا أن البردّوني في معظم قصائده يكاد يستخدم لغة شعرية خاصة به يتعامل معها بكل حساسية وبكل جرأة أيضا، لذا فإن قصائده لها سمات لغوية معينة من خلال هذه الحساسية وهذه الجرأة في إطار هذا الشكل الذي يستخدمه. 4 – بالنسبة لقضية التلقي الشعري، فإذا كان بعض قصائد الشعر المعاصر (التفعيلي على وجه الخصوص) تنعت بأنها غامضة ومبهمة، والرؤية فيها غير واضحة، وأن الرمز الذي يحاول ان يستخدمه الشاعر يتحول على يديه إلى شيء لا يفهمه إلا هو، وأنه لكي نفهم بعض الأعمال المعاصرة يلزم الأمر أن نجلس مع الشاعر نفسه ونحاوره ونستخلص منه ما يود أن يقوله في عمله الشعري، فإن مثل هذه القصيدة لا تحتاج إلى هذا كله، ويكفي أن يقرأها المتلقي العادي مرة أو مرتين ليستمتع بها ويتعامل معها ويفسر مغزاها ويفهم معناها. يا ابنة الليل كيف جئت وعندي ** من ضواري الزمان مليون دهما الليالي كما علمت شكول ** لم تزدني بها المرارات علما آه .. يا ابن الحسين .. ماذا ترجي ** هل نثير النقود يرتد نظما؟

مشاركة :