تتطرق رواية "شرخ في الحائط" للروائية الأرجنتينية كلاوديا بينير لأزمة منتصف العمر، وصعوبات العيش في عالم يفرض فيها الأقوى قواعده على الأضعف، متسائلة: ما هو الثمن الذي يجب دفعه لتدوير العجلة وتقرر أن تعيش أحلامك؟.. حيث تدور أحداثها حول حياة "بابلو سيمو" المليئة بالفوضى، ومسيرته كمهندس معماري، هذه المسيرة التي وصلت إلى طريق مسدود، حيث أصبح دوره مقتصرًا فقط على تصميم مبانٍ مكتبية خالية من الروح تدنس قلب مدينة بوينس آيرس. يمكن أن نقول إن الحال نفسها في زواجه؛ فهو في جدال لا نهاية له مع زوجته حول ابنتهما المراهقة المتمردة. ولتعقيد الأمور، يشعر "بابلو" منذ فترة طويلة بالانجذاب إلى زميلته المثيرة "مارتا هورفات" في شركة "بورلا وشركاه" للأعمال الهندسية، والتي ربما تكون على علاقة مع رئيسه. لكن كل شيء يتغير مع الظهور غير المتوقع لامرأة شابة جميلة تدعى "ليونور"، جاءت لتسأل عن نيلسون جارا. يسلط ظهور "ليونور" وسؤالها الضوء على جريمة حدثت قبل سنوات، جريمة يريد كل فرد في الشركة نسيانها بأي ثمن، فقبل بضع سنوات، ظهر "نيلسون جارا" في الشركة يشكو من صدع ظهر في جدار شقته، وهو أمر ألقى باللوم فيه على العمل الذي بدأته الشركة في الأرض المجاورة. أحاله مدير الشركة بورلا إلى بابلو في ذلك الوقت لحل المشكلة، ونصحته زميلته مارتا بالتخلص منه لأنه مزعج، لكن حدث خطأ ما وتوفي نيلسون جارا، ودُفن على بعد أمتار قليلة أسفل البلاط الثقيل الذي يسير زملاء الشركة فوقه كل يوم في طريقهم من الشركة وإليها، أسفل أرضية الجراج، تمامًا حيث دفنوه تلك الليلة، منذ ثلاثة أعوام. هكذا فتح ظهور"ليونور" وسؤالها عن "نيلسون جارا" صدعًا في الاستقرار غير المستقر لـ "بابلو سيمو"، الذي يرى اليقينيات التي أبقته حتى الآن تنهار واحدة تلو الأخرى بما فيها حياته المملة والمتوقعة ومشكلاته مع زوجته وابنته. ومع ذلك يحاول الافلات من منطق أن ليس لديه ما يخسر في هذا الانهيار، وينجذب إلى الفتاة الجميلة. إن أخطر ما تحمله الرواية في عمق رؤيتها يتمثل في الفساد السياسي والأخلاقي الذي ينتشر في المجتمع المعاصر، حيث تصور الكاتبة تدهور العلاقات الإنسانية في مختلف المجالات التي تتطور فيها، العامة والخاصة، فالشخصيات التي تبدو وكأنها شخصيات عادية في حقيقيتها مخادعة وبلا ضمير تقريبًا، حيث نجدهم طوال الرواية متورطين في مواقف متطرفة، في مواجهة المبادئ الأخلاقية والإنسانية، ومتراخية للغاية واهية في اتخاذ موقف حاسم مع تدهورها الأخلاقي. فمثلا هذا العجوز"نيلسون جارا" تسببت الشركة في تدمير مسكنه وقتله بل ودفنه أسفل مقر الشركة وجميع العاملين بها يعرفون ذلك بما فيهم بورلا المدير وبابلو المهندس المعماري ومارتا زميلته. وذلك على الرغم من محاولاته البائسة مع بابلوومارتا للعمل على حل مشكلة جدار مسكنه الذي كان يزداد شرخه اتساعا يوما بعد يوم. لكن أحدا لم يبال به. إنه شرخ في جدار القيم المجتمعية، يؤدي إلى التغاضي عن الفساد الأخلاقي لأفراده، فبطل الرواية بابلو الذي أدى تجاهله لمشكلة جدار "جارا"، ينافس رئيسه في زميلته المثيرة "مارتا"، ولا يبالي بمشكلة زوجته مع ابنته المراهقة، وأخيرا لا يستحي من جريمته في حق "جارا" ويحاول مغازلة الفتاة الجميلة "ليونور" التي جاءت للسؤال عن "جارا". يذكر أن "كلاوديا بينيرو" ولدت في بوينوس آيرس بالأرجنتين عام 1960. تخرجت في كلية التجارة لتبدأ حياتها العملية محاسبة لمدة 10 سنوات. ثم تغير مسار حياتها فتتجه إلى الصحافة، وتعمل صحفية لسنوات طويلة. وأخيرا اتجهت للكتابة الأدبية والفنية، حيث ألفت العديد من الروايات والمسرحيات، وكتبت السيناريو للتلفزيون، من أعمالها الروائية "لص بينتا"، و"آرامل ليلة الخميس"، "إلينا تعرف"، "كلي لك". مقتطف من الرواية بعد ذلك بعدة دقائق خرج "بابلو سيمو" من الحمام، وجلس للمرة الثانية إلى مكتبه، ولم يكد يريح جسده على الكرسي حتى سأله "جارا": -وصل إلى اثنين سنتيميتر أيها المهندس. لم يفهم "بابلو". فأصر "جارا": -اثنان سنتيميتر وثمانية وعشرون لأكون دقيقًا، سألتني منذ قليل كم عرض الشرخ ولم أكن أعرف. أوقعت بي لكنني أعرف الآن، لقد تجرأت واستخدمت الهاتف وطلبت حارس عقار منزلي وأنت في الحمام وقد قاسه. وصل إلى سنتيمترين وثمانية وعشرين أيها المهندس، أتكفي؟ كرر وظل منتظرًا إجابة "بابلو" بابتسامة على وجهه. -ستكفي، أجل. أجاب وفي كل مرة تزداد ثقته بأن هذا الرجل يمكن أن يكون بائع رابطات عنق جيد. - هل نواصل إذًا، أم تحتاج لبعض الوقت لتقيِّم الوضع بشكلٍ أفضل؟ قال "بابلو"، العازم على إنهاء المشكلة اليوم واثقًا من أن الأمر لا يستحق عناء مقابلة أخرى مع ذلك الرجل: -اسمع يا سيد "جارا"، كما ذكرت سابقًا، فإن مكتب "بورلا للإنشاءات الهندسية" لا يعتقد أن الشرخ الذي ظهر في شقتك له بالضرورة علاقة بعملنا. - وأنا أقول إن له علاقة، وأنكم المسؤولون. قال "جارا" ذلك بسرعة، لكن "بابلو" لن يسمح لنفسه بالتراجع بسبب هذه الجملة التي بدت متحدية وحاسمة، أو على الأقل إذا كان سيتراجع فلن يدعه يلحظ هذا فأجاب: -نبني المساكن منذ سنوات ولم يحدث أبدًا أن أسقطنا حائطًا، إن احتمال حدوث تدمير جوهري في شقتك قليل جدًا بل منعدم. ضحك "جارا" لكن هذه المرة لم تكن ضحكته كضحكة بائع أربطة العنق ولم تكن ذات مغزى ولا مدروسة، بل كانت ضحكة صادقة، عصبية، غاضبة وللمرة الأولى ينادي هذا الرجل "بابلو" باسمه بلا لقب أو منصب: -اسمع يا سيد "سيمو"، إن حياة الأشخاص أمثالي وأمثالك لا يمكن أن تخضع إلى الإحصائيات، انهيار حائط لمرة واحدة فقط كفيلٌ بالقضاء على الإنسان، أم أنك بسبع أرواح مثل القطة؟ لا، لا تخدع نفسك بهذا الظن. أنت لا تفهمني لأنك لا تعرف ما أخشاه في الحقيقة. أتعرف مما أخاف؟ ليس من الموت بسبب سقوط البناء. لا ليس هذا، لأن الموت سيكون النهاية، وأنا لا أعرف أي شيء عن ذلك، لكن ما أخشاه حقًا هو التفكير في أن يتم هدم الحائط في عدم وجودي، أتفهم؟ إن اليوم، هذا المساء، قريبًا وأنا في طريقي وقبل أن أصل إلى منزلي بخطوات قليلة، أثناء عبوري من أمام موقعك، أرفع رأسي لأبحث عن نافذتي مثلما أفعل دائمًا منذ سنوات، وأرى على البعد تلك المقاعد التي تحيط بمنضدتي، بمفرشها نفسه الذي استخدمته أثناء الإفطار هذا الصباح، والباب الذي أدخل من خلاله إلى منزلي من خلال ممر الطابق الخامس، ثلاجتي، سخاني، حياتي أيها المهندس. هل تعرف لماذا أرى تلك الأشياء؟ لأن الحائط الذي كان يغطي كل القليل الذي أملكه لم يكن هناك ليحمي ما أملكه. كرر "جارا" ثانيةً "ما أملكه"، وبعد ذلك ألقى نظرة تائهة على الأوراق المتناثرة فوق المكتب ثم بدأ حركته بحماس، بشكلٍ غير محسوس في البداية لكنها اكتسبت شدة شيئًا فشيئًا، وأخذ يهتز على الكرسي إلى الأمام وإلى الخلف. بدا وكأن "جارا" دخل حركة غير محددة حتى تذكر شيئًا مهمًا فجأة، فانتفض واقفًا وأخذ يبحث في أحد الملفات بحماسٍ متجدد حتى عثر على قصاصة من جريدة تظهر صورة كبيرة لمبنى بدا أن شخصًا ما قد قام، بارتباك أو بتسرع، بمسح الحائط الجانبي، فظهر كبيت الدمية بأصغر التفاصيل في الغرفة الظاهرة المكشوفة. تحمل الصورة عنوان: "انهيار قاتل". -هل تفهمني أيها المهندس؟ بالطبع أنت تفهمني. أخرج "جارا" من جيب البنطلون منديلًا مرره على جبهته بتأنٍ، مكررًا الفعل على كلا الجانبين، ثم عقد ساقيه، وضم يديه إلى صدره، ومرة أخرى أخذ يهتز إلى الأمام وإلى الخلف على مقعده منتظرًا. لم يفهم "بابلو" حقيقة ما الذي يريده "جارا"، لكنه قرر أن الطريقة الوحيدة لمعرفة هذا هي أن يكون مباشرًا جدًا قدر الإمكان. قبل أن يقول أي شيء بحث عن قلمه الرصاص ماركة "كاران داش" على حافة المكتب ووضعه في ميل مع مفكرته، منظمًا الفوضى التي أحدثتها ملفات "جارا"، حثيثًا، ولكن بما يكفي لإظهار أنه ولمرة أخرى مسؤولٌ عن المكان الذي يملكه. عندما شعر أنه أصبح جاهزًا، استراح بظههره على ظهر الكرسي ورفع ذراعيه إلى أعلى أولًا ثم أخفضهما خلف رقبته. شبك أصابعه لتساعده في جلسته، ثم نظر إلى "جارا" مباشرةً وحينها فقط تحدث: -لنرَ الآن، أخبرني يا سيد "جارا" ما الذي تريده؟ كما توقع تمامًا فقد تلقى "جارا" رسالته لكن بتروٍ، بلا اندهاش، كما لو كان ينتظر منذ مدة طويلة هذا السؤال، فكان مباشرًا أيضًا. قال: -نقودًا أيها المهندس، مالًا لتعويض كل المضايقات التي تسببتم فيها، وللنفقات الطارئة، لأنه إذا كان الأمر يتعلق بعمل دعامة لاصقة بسيطة لشرخ بلا أهمية، فبإمكاني فعل هذا بنفسي دون أن أزعجك لا أنت ولا شركاءك، لكن قد توجد مشكلة أخرى من شأنها التأثير على شقق أخرى لهذا فإن صمتي له ثمن، أليس كذلك؟ سأل، لكنه لم ينتظر إجابة. -مالًا أيها المهندس، هذا ما أريده، المال. للمرة الثانية يقيِّما بعضهما بعضًا، للمرة الثانية لم يخفض أحدهما نظرته عن الآخر في صمت. بالكاد ابتسم "بابلو" وأومأ برأسه عدة مرات، ليعطي "جارا" تلك الإيماءة التي تعني، في النهاية، القبول وأنه قد فهم. سأل "سيمو": -وما مقدار المبلغ الذي نتحدث عنه؟ -لا تتظاهر بأنك لا تعرفه أيها المهندس، أنت المتخصص في التفاوض في مثل هذه الأمور وليس أنا، قل مبلغًا وسأتركه لتقديرك. لكن "بابلو" لم يضع رقمًا ولم يقل شيئًا، حينها بدأ "نيلسون جارا" في جمع أغراضه في الكيس. بالنسبة له، استغرق الوقت الذي يكفيه، ليس بغرض جمع الأوراق بعناية، بل من أجل الحفاظ على التوتر الذي أحدثه مؤخرًا. عندما بدا واثقًا من أنه نال ما كان يبحث عنه، مد يده إلى "بابلو" وقال وهو يصافحه: -سأنتظر مكالمتك أيها المهندس. ثم وضع بطاقته على المكتب، بطاقةً بيضاء اللون مطبوعة بحروفٍ سوداء محددة تُظهر اسمه ورقم هاتفه، بخطٍ دقيقٍ لامعٍ فيه بعض الحروف مثل حرف التاء والفاء على سبيل المثال تمت إطالتها لأعلى أو لأسفل بطريقةٍ مبالغ فيها بالنظر إلى خط الكتابة المتخيل. أخذ "بابلو" البطاقة وقرأها واندهش من أن الأرقام الثلاثة الأخيرة في رقم هاتف "جارا" تتشابه مع أرقام هاتفه، اثنين، ثمانية، اثنين، وهذا يعنى أنه هو و"جارا" الذي يبدو شديد الاختلاف عنه لديهما شيءٌ مشترك. حتى وإن كان هذا الشيء ليس أكثر من ثلاثة أرقام، وتساءل وهو يضع البطاقة في محفظته هل هي الإيمان، أم القدر، الصدفة أم المصادفة؟ مودعًا وقف "جارا" محملًا بأوراقه التي تؤكد وجود الشرخ وصحة إدعائه مرة أخرى، ثم قال: -أثق فيك أيها المهندس، أثق في أنك ستحسن التصرف. وانصرف.
مشاركة :