لين جناد تخلخل الذائقة الكلاسيكية بإيقاعات لاتينية صاخبة | نضال قوشحة

  • 9/28/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الموسيقى لغة العالم، فلا حدود أمامها في التواصل بين الشعوب، فما يؤلّف في شرق العالم يعزف في غربه وما يقدّم في شماله يقبله جنوبه. وكثيرا ما كانت الموسيقى جسر تواصل بين الشعوب والحضارات تلتقي عبرها مع بعضها البعض. وضمن هذا التوجّه قُدّمت في العاصمة السورية دمشق مؤخرا موسيقى كلاسيكية أوروبية بروح من أميركا اللاتينية أسّست لتلقي مُغاير للموسيقى الكلاسيكية يقطع مع النمطية. قدّمت عازفة البيانو السورية لين جناد بمرافقة فرقة أورفيوس السيمفونية بقيادة المايسترو أندريه المعلولي في دار أوبرا دمشق مؤخرا حفلا موسيقيا شكل حالة نادرة في الحضور الموسيقي العالمي بدمشق، حيث امتزجت فيه الموسيقى الكلاسيكية العالمية مع إيقاعات أميركا اللاتينية السريعة والصاخبة. وعلى امتداد ما يقارب الساعة من الزمن قُدّمت في الحفل موسيقى عالمية طافت بين أوروبا وأميركا اللاتينية بأجواء كرنفالية واكبتها حالة بصرية أوجدت طابعا جديدا في الحضور الموسيقي الكلاسيكي المعتاد، فظهرت في الخلفية شاشة سينمائية كبيرة كانت تعرض مواد سينمائية في فن الغرافيك تقدّم تقاطعات فكرية في الموضوعات الموسيقية المقدّمة، كما قدّمت صيغة بصرية راعت مسألة تغيّر شكل الإضاءة بألوانها المختلفة تماشيا مع طبيعة الأنغام وتفاعل الجمهور معها. بين عصرين لين جناد: جمهور الموسيقى اللاتينية العريض جسر الوصول إلى الشباب كما في كل العالم، يعرف الجمهور السوري الموسيقى الكلاسيكية العالمية، وهي التي تقدّم الموسيقى على أنها موسيقى النخبة، وكثيرا ما توصف بأنها موسيقى جدية وقورة ولكنها غير شعبية. وعبر عصور طويلة حاول البعض من العاملين في المجال الإبداعي الموسيقي كسر حالة الجمود تلك وتقريبها من الشريحة الشعبية. فظهرت على المستوى العالمي محاولات جمعت بين الكلاسيكية كشكل موسيقي وبين مضمون يختلف بدرجات متفاوتة بين تجربة وأخرى عن الحضور المشهور للموسيقى الكلاسيكية. بعض هذه التجارب اعتمد على تغيّر سرعة الإيقاع فقدّم الموسيقى الكلاسيكية بإيقاعات سريعة. وبعض آخر اتجه لتقديمها من خلال آلات موسيقية كهربائية حديثة، واستلهم بعض المبدعين العالميين أجواء الموسيقى الكلاسيكية وقدّموا نمطا جديدا انتشر في كل العالم ومن أهم تجارب هذا الشكل الموسيقار ياني. وفي تجربة لين جناد مع أوركسترا أورفيوس اجتمعت الموسيقى الكلاسيكية بجديتها وحضورها الوقور مع الإيقاعات اللاتينية التي تتميز بالحيوية والنشاط. فمزجت عددا من أهم المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية مع الآلات الإيقاعية اللاتينية في حالة بدت مليئة بالدهشة والسحر. مشروع جناد جمع موسيقى عصرين، الفاصل الزمني بينهما يمتدّ لمئات الأعوام، فموسيقى المرحلة الكلاسيكية يمتدّ من القرن السادس عشر وينتهي في بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت فيه موسيقات عالمية جديدة انصرف المبدعون الموسيقيون للتأليف لها مثل موسيقى البلوز والتانغو والسامبا والسون والريغي التي راجت في أميركا اللاتينية بشكل أساسي. ومن هناك ترك غالبية المؤلفين الموسيقيين تلك التآليف الموسيقية وباتوا يقدّمون أعمالا موسيقية في الأشكال الحديثة. وضمن فرقة أوركسترالية تضم إلى جانب التشكيل التقليدي لها “باند جاز” يتألّف من آلات إيقاعية ودرامز وقيثارة كهربائية قدّمت في الحفل مؤلفات موسيقية كلاسيكية بروح لاتينية صاغها بتوزيع جديد ناريك عباجيان، فكانت البداية بمقطوعة للموسيقار الشهير بيتهوفن من السيمفونية الخامسة، مرورا بالحركة الثالثة من مؤلفه سوناتا رقم 17، ثم المعزوفة الرقيقة من أجل إلسا، وصولا إلى مقطوعة سرينادة لفرانز شوبرت. أندريه المعلولي: فكرة المشروع تكسر حالة التلقي للموسيقى الكلاسيكية وفي فن الأوبرا قدّمت جناد وأوركسترا أورفيوس لجورج بيزيه أغنية من أوبرا كارمن، ثم رقصة فالس للروسي شوستاكوفيتش، تلتها معزوفة العيون السوداء للموسيقار هيرمان، ومن ثم مقطوعة موتسارت الشهيرة من مقدمة السيمفونية رقم 40، وأخيرا رقصة هنغارية ليوهان برامز. وتقول الفنانة لين جناد عن الحفل الذي تفاعل الجمهور السوري معه بقوة “حلم قديم يتحقّق، كنت أحاول دائما أن أتلمّس الطريق في وضع الموسيقى الكلاسيكية في شكل جديد يُتيح استقبالها من قبل جيل الشباب بشكل مختلف، نخرج فيه من جمود الموسيقى الكلاسيكية وحضورها الجاد”. وتضيف “الإيقاع اللاتيني يتميّز بالحيوية والسرعة وهو مقبول ومعروف في كل العالم وله شعبية كبيرة، يمكن بالاعتماد عليه مدّ جسور تواصل بين الجمهور العريض له والموسيقى الكلاسيكية الرصينة”. وتُتابع جناد “منذ أن طرحت الفكرة على المايسترو أندريه المعلولي تقبّلها، وعملنا على تحضير برنامج يستعرض مقطوعات موسيقية تتميّز بالجمال والشهرة، عملنا بجهود كبيرة وعلى مدار أيام طويلة حتى وصلنا للنتيجة المرضية “. ولين جناد من مواليد دمشق عام 1985، حائزة على شهادة في الموسيقى اختصاص بيانو من المعهد العالي للموسيقى بدرجة امتياز، وإجازة في اللغة الفرنسية من جامعة دمشق عام 2009، تعمل حاليا مدرسة في المعهد العالي للموسيقى، كما شغلت سابقا منصب رئيس قسم البيانو بمعهد صلحي الوادي للموسيقى من عام 2014 حتى 2019. وبدوره تحدّث أندريه المعلولي قائد أوركسترا أورفيوس عن العمل وتفاعل الجمهور معه كشكل فني جديد تقدّمه أورفيوس والأوبرا السورية، قائلا “نهدف إلى تقديم الجديد والمختلف، ومن هذا المنطلق قبلنا فكرة تقديم هذا المشروع الذي كسر حالة التلقي التقليدية للموسيقى الكلاسيكية”. ويسترسل “الحفل قدّم فرصة إلى الجمهور لكي يستمع إلى مؤلفات موسيقية عمرها مئات السنوات بشكل جديد ومختلف جمع بين ماهية العمل الأساسية وروح العصر. وهذا ما حقّق تفاعلا كبيرا بين الجمهور وبين المؤلفات التي يعرفها. المشروع يهدف إلى إيجاد لغة تواصل حضارية بين الموسيقى الكلاسيكية الرصينة والجميلة وبين الجمهور المعاصر بكل شرائحه”. وعن تقبّل الأفكار الموسيقية الجديدة للعزف ضمن برامج الفرق السيمفونية في أوبرا دمشق، تابع يقول “نرحّب بتقديم الأفكار الجديدة، والباب مفتوح لأي مشروع جدّي وواع يقدّم فكرا موسيقيا بشكل جدّي صحيح.. آفاق العمل الموسيقي واسعة ويمكن دائما تقديم ما هو جديد وجميل”. صراع موسيقي PreviousNext لم يكن طريق رسوخ الموسيقى اللاتينية بإيقاعاتها الحيوية والصاخبة سهلا، فعند وجودها الأول في أوائل القرن العشرين واجهت الكثير من الرفض من قبل نخبة المجتمعات في أميركا اللاتينية، ووصل الأمر ببعض المبدعين الموسيقيين أنهم ألّفوا بعضا من أعمالهم في أقبية السجون. ففي بداية القرن العشرين لم يقبل جمهور أميركا اللاتينية بديلا عن الموسيقى الكلاسيكية الجادة التي كان يعرفها واعتاد عليها. لكن موسيقى شعبية طاغية كانت قد بدأت بالظهور في العديد من عواصم ومدن المنطقة مثل ريو دي جانيرو في البرازيل وبوينس آيرس في الأرجنتين ومونتيفيديو في الأورغواي. تجربة لين جناد مع أوركسترا أورفيوس تجتمع فيها الموسيقى الكلاسيكية بجديتها مع الإيقاعات اللاتينية وحيويتها هذه الموسيقى ولدت نتيجة تمازج عناصر حضارية لمكوّنات إنسانية مختلفة هي سكان أميركا الأصليين مع زنوج أفريقيا الذين نقلوا موسيقاهم من قلب أفريقيا، إضافة إلى السكان الأوروبيين المستعمرين وموسيقاهم الكلاسيكية. وكان نتيجة كل ذلك موسيقى جديدة بإيقاعات اتّسمت بالحركة والنشاط والحيوية، فظهرت موسيقى التانغو والسامبا والرومبا وغيرها، لكن الذوق العام في المنطقة لم يقبل هذه الموسيقى الوليدة، بل حاربها بقسوة، وكان من مهمة رجال الشرطة في العديد من المدن قمع التجمعات التي يحتشد فيها الناس الشعبيون لعزف هذه الموسيقى والرقص على أنغامها. لكن جمال هذه الموسيقى وحيويتها وتخفيفها من آلام الفقر والعوز وتمسّك الناس بها وحضور الحالة الكرنفالية فيها لاحقا جعل منها قيما ثقافية راسخة في مجتمعاتهم، فسادت في قسم كبير من القارة حتى أصبحت ملازمة لأهم كرنفالات العالم وهو ريو دي جانيرو، حيث تتبارى مدارس السامبا فيه بتقديم أهم ما لديها من مدارس في الموسيقى والرقص وباتت إيقاعات التانغو والرومبا والسامبا والسون والريغي موجودة في موسيقى العالم كله وتشهد حضورا قويا في معظم منابر الموسيقى العالمية.

مشاركة :