ستكون مفاوضات الائتلاف بعد الانتخابات الألمانية عملاً مضنياً، لكن للحكم من البيانات الحزبية، يجب أن تكون الحكومة الألمانية المقبلة ملتزمة بإنشاء جيش للاتحاد الأوروبي، وتؤيد معظم الأحزاب الألمانية هذه الفكرة، كما أن الحزب الاجتماعي الديمقراطي، الذي تقدّم بفارق صغير، متحمس بصورة خاصة للفكرة. وخلال هذا الوقت، يبدو الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أكثر تصميماً من أي وقت مضى لتعزيز النفوذ الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، بعدما وصفت باريس ما قامت به الولايات المتحدة بصفقة الغواصات مع أستراليا، بمعاونة بريطانيا، بأنه «طعنة في الظهر»، لكن الارتفاع الحالي للخطاب المتعلق بسيادة الاتحاد الأوروبي والاستقلال الاستراتيجي والجيوش الأوروبية، يبدو بعيداً عن الواقع، والحقيقة الصعبة أن الاتحاد الأوروبي لايزال بعيداً جداً عن امتلاك طاقة الإنفاق والهيكليات أو الرؤية المشتركة لتحويل هذه الأفكار إلى حقيقة. وهذا لا يعني أن الاستقلال الاستراتيجي فكرة سيئة، أو أن الاتحاد الأوروبي محكوم عليه بأن يظل عديم الأهمية جيوسياسياً، إذ إن مستقبل الصفقات التجارية مع أوروبا، أو تهديدات الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات، يمكن أن يحسن سلوك جميع الدول في شتى أنحاء العالم، لكن القوة الاقتصادية والإقناع الأخلاقي ليسا دائماً كافيين بديلاً عن القوة العسكرية، (وكان رئيس الاتحاد السوفييتي السابق، جوزيف ستالين، قد تساءل: «ما عدد الفِرَق العسكرية التي يمتلكها البابا»، مشيراً إلى أنه ليس له قوة عسكرية). وعندما يتعلق الأمر بالأمن، فإن دول الاتحاد الأوروبي التي يبلغ تعدادها 27 دولة، لاتزال تعتمد بكثافة على الولايات المتحدة، وكان الفرنسيون على صواب عندما قالوا إن هذا الاعتماد يمثل فكرة سيئة، وأوضح العديد من الإدارات الأميركية المتعاقبة أن صبر الولايات المتحدة بتأمين الدفاع للأوروبيين قد نفد، وإن الاستقرار السياسي لم يعد من المسلمات. إذ يجب على أوروبا بدء تحقيق الاستقلال الاستراتيجي نوعاً من التحوط ضد إمكانية مجيء «إدارة ترامب» ثانية مستقبلاً، التي ستكون معادية بصورة قوية للاتحاد الأوروبي، والقيم الديمقراطية الليبرالية، (وبريطانيا بعد «بريكست» معرّضة لمواجهة هذا الاحتمال أكثر من غيرها). لكن الحقائق الاستراتيجية والسياسية الأساسية تظل غير متسامحة، وتنفق دول الاتحاد الأوروبي نحو 288 مليار دولار سنوياً على الدفاع، مقارنة بنحو 700 مليار دولار تنفقها الولايات المتحدة سنوياً على الدفاع، ويتوزع الإنفاق في الاتحاد الأوروبي على ميزانيات وطنية مختلفة، الأمر الذي يعني تكرار العديد من الوظائف، في حين أن بعض القدرات المهمة، مثل طائرات النقل، غير متوافرة على نحو كافٍ. والأمر الذي لايزال أكثر أهمية، هو غياب الرؤية السياسية الأساسية لدعم سياسة دفاع مشترك حقيقية، وغالباً ما ينقسم الاتحاد الأوروبي خلال الأزمات الدولية الكبيرة، وفي عام 2011 شاركت فرنسا وبريطانيا في التدخل العسكري ضد الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، في حين أن ألمانيا تنحت جانباً، وخلال الحرب العراقية عام 2003، عارضة ألمانيا وفرنسا وروسيا التدخل الأميركي في العراق بقيادة الولايات المتحدة، وشاركت إسبانيا وهولندا والدنمارك وإيطاليا، وعضو الاتحاد في ما بعد بولندا، في دعم الغزو الأميركي. ولأسباب تاريخية وجغرافية، غالباً ما تظل الأولويات الاستراتيجية لدول الاتحاد الأوروبي مختلفة للغاية، وتوضح تجربة الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، أن دول وسط أوروبا عادة لاتزال تعتقد أن الضامن الوحيد للأمن، والذي يمكن الاعتماد عليه هو الولايات المتحدة. وكان السياسيون في جمهورية التشيك قد أوضحوا ذلك لي بالقول: ثمة أمر واحد تعلمناه من عام 1938، مفاده أنه لم يعد هناك بعد الآن أي ضمانات أمنية من فرنسا. وفرنسا نفسها لديها جملة من المشكلات المختلفة على الطاولة، فهي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى أسلحتها النووية الخاصة بها، وتؤيد معظم الأحزاب السياسية الألمانية الرئيسة فكرة إنشاء مقعد واحد يمثل الاتحاد الأوروبي في الأمم المتحدة، لكن حتى الأسبوع الماضي أصدرت فرنسا رفضها لهذا الاحتمال. ويبدو الأمر وكأن باريس تتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي كأنه فيلق أجنبي، يمكن استدعاؤه عندما تحتاج فرنسا إلى بعض العضلات الإضافية لدعم أهدافها الدولية، ويشكو الدبلوماسيون الأوروبيون أحياناً من أن الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، التي تتعامل معها فرنسا باعتبارها نداً لها، هي ألمانيا، وحتى الألمان معروف عنهم أنهم يشعرون بالغضب من الطريقة التي يطرح بها الرئيس الفرنسي الأفكار الجديدة حولهم، وكان لوصف ماكرون حلف «الناتو» بأنه «ميت سريرياً» وقع سيئ للغاية على برلين. ومن ناحيتهم، يشعر الفرنسيون غالباً بالغضب من الآراء السلمية القوية في الثقافة الاستراتيجية الألمانية، وعلى الرغم من موافقة الخطاب الألماني على جيش واحد للاتحاد الأوروبي، إلا أن قلة من الألمان فكروا في الاحتمال الذي يمكن أن يحدث في حالة الانقسام على قضية متى يجب نشر الجيش، فهل يمكن أن يتم إرسال القوات الألمانية إلى معركة حتى لو كانت الحكومة الألمانية تعارض ذلك؟ يبدو أن الاتحاد الأوروبي لايزال بعيداً مسافة جيل أو أكثر من السماح بالتصويت على الأغلبية على مثل هذه القضايا الوجودية. ويرى أولرايك فارنك من «يوروبيان كاونسل أون فورين ريلاشن»، أن إعجاب الألمان بفكرة جيش أوروبي واحد يعكس انعدام الارتياح المتواصل إزاء قوة الجيش الوطني، وشعوراً غامضاً بأن الاتحاد الأوروبي يدعم السلام. وتظل العوائق الهيكلية والمالية والسياسية لـ«الاستقلال الاستراتيجي» الأوروبي مثيرة للمخاوف، لكن على الرغم من كل سخطهم وغضبهم المشترك، لايزال الفرنسيون والألمان يمتلكون التزاماً عميقاً بالعمل معاً، ولايزال الموقف المشترك الذي توصلت إليه باريس وبرلين قوياً للغاية ضمن الاتحاد الأوروبي. وستعمل ألمانيا في مرحلة ما، بعد المستشارة أنغيلا ميركل، على الانفتاح نحو احتمالات جديدة، وستكون فرنسا في حالة تأهب كبيرة أمام الانفتاحات الجديدة من أجل الاستقلال الاستراتيجي، ولكن يبدو أن أوروبا لن تتحرك على الواقع، أخيراً، إلا في حالة حدوث أزمة عميقة فقط، مثل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. جيدون راشمان ■ صحافي بريطاني يعلق على القضايا الدولية في «فاينانشال تايمز». • يبدو الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، أكثر تصميماً من أي وقت مضى لتعزيز النفوذ الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، بعد ما وصفت باريس ما قامت به الولايات المتحدة، في صفقة الغواصات مع أستراليا بمعاونة بريطانيا، بأنه «طعنة في الظهر». • الألمان معروف عنهم أنهم يشعرون بالغضب من الطريقة التي يطرح بها الرئيس الفرنسي الأفكار الجديدة حولهم، وكان وصف ماكرون حلف «الناتو» بأنه «ميت سريرياً» له وقع سيئ للغاية على برلين. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share طباعة فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :