استطاع معز الدولة البويهي أن يسطو على بغداد، وينتزع الحكم من الأتراك، والخليفة العباسي الضعيف ويقيد سلطاته، ولم يعد للخليفة من أمر سوى إصدار المراسيم فحسب، أما تدبير شؤون الدولة وتعيين الوزراء، فكان من نصيب معز الدولة ومن تلاه من حكام، وبعد وفاة معز الدولة، تولى الأمر ابنه عز الدولة، وكان عمره آنذاك 25 سنة، واتسم بسوء التدبير، وعدم الفطنة والصلف، والجور، وظلم الناس، وبعده تولى عضد الدولة الحكم، الذي كان حكيماً، حسن التدبير، وقرب إليه العلماء والأدباء، فساد العدل وانتشر العلم، وكثر العلماء في جميع الفنون، وعاشت بغداد أياماً جميلة. وانتقال السلطة من عز الدولة إلى ابن عمه عضد الدولة لم يكن أمراً ميسوراً، وإنما تم عبر صراع مرير راح ضحيته عدد من الأنفس، ومن أولئك الذين ذهبوا بسبب ذلك الصراع، هو وزير عز الدولة واسمه ابن بقية، ولولا قصيدة رائعة قيلت فيه بعد مماته، لما خلد التاريخ ذكره، فهو ابن فلاح بسيط، أتيحت له الفرصة أن يكون طباخاً لدى معز الدولة البويهي، ثم أصبح رئيساً للطباخين، ثم أسندت إليه رئاسة الخدم الذين يقومون بالعمل المتعلق بالسفرة، وكان يقف والمنديل على كتفه أثناء تناول معز الدولة وابنه عز الدولة للطعام، بعد تولي عز الدولة مقاليد الحكم، أصبح أكثر قرباً للحاكم الجديد، وبعد ذلك أصبح وزيراً له، وهذا المنصب الحساس يتطلب حنكة ودراية ومعرفة وأدباً جماً وثقافة عالية، وهذه الصفات لا يمتلكها ابن بقية، لكن لديه صفات أخرى مهمة وهي طيبة النفس، والكرم، فاق الوصف، وأصبح يضرب به المثل، بل كان مسرفاً فيما ينفقه وما يمنحه للفقير والغنى، والقريب والبعيد، على حد سواء. كان عضد الدولة قبل أن يتولى بغداد، يرى أن ابن بقية يحرض ابن عمه عز الدولة عليه، ولهذا وبعد أن دخل بغداد طلب إحضار ابن بقية، الذي كان قد سملت عيناه وأودع السجن من قبل عز الدولة، لأمر فعله أدى إلى سخطه عليه، وبعد أن أحضر أمر عضد الدولة بأن يرمي ابن بقية تحت أقدام الفيلة لتدوسه بأقدامها، وبعد أن مات، أمر أن يصلب جسمه على جذع شجرة بالقرب من جسر بغداد، وساء ذلك أهل بغداد، لحبهم الشديد للوزير ابن بقية بسبب كرمه وسخائه المفرط، وأيضاً لطفه وحسن تعامله وتواضعه، قال الإمام الشافعي: وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيبٍ يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَخاءُ أخذ أعوان عضد الدولة جثة ذلك البائس وعلقوها على جذع شجرة كما أمرهم، لكن الناس من حبهم له جعلوها مزاراً يلتفتون حولها، يترحمون عليه ويدعون له بالغفران. وذات يوم قدم إلى بغداد رجل صوفي ثقة عدل يقال له أبو الحسن الأنباري، وكان ممن طاله فيما مضى كرم الوزير ابن بقية، ذهب كعادته إلى القصر وسأل عن الوزير فأخبروه خبره، فذهب حزيناً مفجوعاً ليرى تلك الجثة المعلقة، فقال مرثيته المشهورة والنادرة، والتي تعتبر أشهر قصيدة قيلت في الرثاء، وما كان الأنباري يقول الشعر فيما مضى، لكنها وليدة مشاعر تلك اللحظة، فتدفقت سيلاً فياضاً من رجل وفي، وقلب ندي، ولسان رائق، ونبل فائق فقال: علوٌّ في الحياة وفي المماتِ لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ كأنّ الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلاتِ كأنك قائم فيهم خطيباً وكلهم قيام للصلاةِ مددتَ يديك نحوهم احتفاءً مدها إليهم بالهباتِ عندما يخرج الكلام من القلب، ويلفظ به اللسان، فإنما هو تجسيد للمشاعر الداخلية التي لا يستطيع أن يرسمها الإنسان بتعابيره الجسدية، وكأنما قد رسم لنا لوحة تعبيرية عن رجل كأنه في مجلسه، يستقبل الناس ويمد إليهم يده، ويغدق عليهم الصلات والعطايا، ويقف فيهم خطيباً وهم قيام للصلاة، بينما هو في حقيقة الأمر مصلوباً على جذع شجرة: ولَمَّا ضاقَ بطنُ الأرضِ عن أنْ يَضُمَّ عُلاكَ من بعدِ الوفاةِ أصارُوا الجوَّ قَبرَكَ واستعاضُوا عن الأكفانِ ثوبَ السَّافِياتِ ولك أن تتصور ذلك الإبداع في الوصف حيث جعل الجو قبراً، وجعل السافيات، وهي الرياح كفناً له، وتهيل عليه التراب في قبره الجوي، وهو مصلوب على شجرة، ثم قال: أسَأْتَ إلى النوائبِ فاستَثارَتْ فأنتَ قتيلُ ثأْرِ النائباتِ لقد أبدع في هذا البيت أيما إبداع، فهو يرى أن الوزير قد أساء إلى النائبات التي تلحق بالناس لأنه يقضي حاجاتهم ويحقق أمانيهم، فلا يكون للنوائب مجالاً في إلحاق الضرر بهم، ولهذا فقد انتقمت منه النائبات فحدث له ما حدث. كتب الأنباري عدة نسخ من قصيدته، ثم نشرها في بغداد، وتلقفتها أيدي الناس، وبعد ذلك اختفى عن أنظار عضد الدولة خوفاً منه، وعندما أنشدت بين يدي عضد الدولة تمنى لو أنه المصلوب دونه، وبعد سنة من اختفائه أعطى الملك الأمان للأنباري، وعندما حضر بين يديه أعطاه فرساً و 10.000 درهم، ثم أهلكه بعد مدة. وكان الوزير قد سأل التوحيدي عن قصته مع الشيخ الخراساني، فأخبره أنه قابل الشيخ الخراساني عند الجسر بعد وفاة عضد الدولة، ونظر الشيخ الخراساني إلى جثة ابن بقية مصلوبة فقال: لا إله إلا الله ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض، ووصلها التوحيدي إلى الحاكم الجديد فأمر بدفن الجثة ودفنت.
مشاركة :