كتب أرنست رينان كتاباً حول ابن رشد والرشدية، ذكر فيه الكثير عن ابن رشد وفلسفته، وجعله جامعاً لما فات لا مبتكراً. والحقيقة أن الفلسفة بمفهومها الواسع أضافت إلى الحضارات المتعاقبة الكثير من الفوائد، مع أنها حملت معها بعض السلبيات. وقد قال فيما قال حول الموضوع إن حياة ابن رشد شغلت جميع القرن الثاني عشر تقريباً، وترتبط في جميع حوادث هذا الدور الحاسم في تاريخ التمدن الإسلامي، وأبصر القرن الثاني عشر انتهاء خيوط ما حاوله العباسيون في الشرق، والأمويون في إسبانية من توسيع لحقل العقل والعلم في الإسلام، فلما مات ابن رشد في سنة 1198 فقدت الفلسفة العربية فيه آخر ممثل لها. وقد أسهم ابن رشد إسهاماً كبيراً، في هذا النمط من المعرفة، وتحمل ما لقي من نكبات في حياته، وما تمتع به من شهرة بعد مماته، وذلك بما ظهر له من دور في الثقافة العقلية، وذلك في زمن كانت هذه الثقافة تتداعى، وقد وقع لمثله أشياء مشابهة، إذ كانت شاهدة على ما لحق بالقضية التي كان يدافع مرات عنها، فكأن ابن رشد جامعاً للفلسفة العربية، أي أحد أولئك الذين يظهرون في وقت متأخر جداً فلا يبتكرون، وأنما يكونون آخر ما للحضارة المتداعية من دعائم، فيرون اسمهم ببقايا الثقافة التي لخصوها، كما يرون عدو مؤلفاتهم صيغة مختصرة لهذه الثقافة، لتترسخ في الذهن البشري المشترك. ولم يكد يمضي على الفلسفة العربية الأندلسية قرنان، حتى واجهت من فورها عزوفاً عنها، وانقلابات سياسية، وغارات أجنبية، وقد كان للخليفة الحكم الثاني فخر البدء بهذه السلسلة الرائعة من الدراسات التي لها مقام مهم في تاريخ الحضارة بما اتفق لها من تأثير في أوربة، النصرانية، ويروي المؤرخون المسلمون أن الأندلس تحولت في عهده إلى سوق عظيمة، تجلب إليها منتجات الأدب من مختلف الأقاليم، وكانت الكتب التي في العراق وسورية تعرف في الأندلس، غالباً، قبل أن تعرف في المشرق، ومن ذلك أن أرسل الحكم ألف دينار من الذهب الخالص إلى أبي الفرج الأصفهاني، كيما يحوز النسخة الأولى من كتاب أغانيه المشهورة، ومن الواقع أن هذا الأثر النفيس قد قُرئ في الأندلس قبل أن يقرأ في العراق، وقد كان للحكم في القاهرة، وبغداد، ودمشق، والإسكندرية وكلاء، عهد إليهم في الحصول له على مؤلفات من علوم الأولين والآخرين بأي ثمن كان، وتحول قصره إلى مصنع لا تجد فيه غير الناسخين، والمجلدين، والمزوقين، والوراقين، وكانت قائمة مكتبته وحدها مؤلفة من أربعة وأربعين مجلداً، وذلك من أربعمائة ألف كتاب، وأن نقل هذه المجلدات من مكان إلى آخر استلزم ستة أشهر على الأقل، وكان الحكم متبحراً في التراجم وعلم الأنساب، ولم يوجد كتاب لم يقرأه، ثم إنه كان يكتب على أوراق متنقلة اسم المؤلف، وكنيته، وأسرته، وقبيلته، وأهله، وسنه ولادته، وموته، وما عزى إليه من نوادر، وكان يقضي وقته في محادثة رجال الأدب الذين يردون بلاطه من جميع أنحاء العالم الإسلامي. وكان عرب الأندلس، حتى قبل الحكم، يشعرون بحافز يدفعهم إلى الدراسات الحرة، وذلك بفعل هذا الإقليم الجميل وجهود الخليفة الحكم، وقد ساعدته عليها عوامل ملائمة، وأدى ذلك إلى أن نمت حركة أدبية تعد من أسطع ما في القرون الوسطى، وكان من الميل إلى العلم والموضوعات الجميلة في القرن العاشر أن قام في هذه الزاوية الممتازة من العالم تسامح لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرض مثيلاً له علينا، وذلك أن النصارى واليهود والمسلمين كانوا يتكلمون بلغة واحدة، وينشدون عين الأشعار، ويشتركون في المباحث الأدبية والعلمية ذاتها، وقد زالت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس، فكان الجميع متفقين على الجد في حقل الحضارة المشتركة، وتغدو مساجد قرطبة، التي كان الطلاب فيها يعدون بالألوف، مراكز فعالة للدراسات الدينية والفلسفية والعلمية. هكذا كان واقع الحال في ذلك العصر، والأمل في الله كبير أن يصبح مستقبل للأمة الإسلامية أفضل من واقعها، فاليأس من رحمة الله ليس من خلق المؤمن.
مشاركة :