الشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر المؤرخ المشهور -رحمه الله-، صاحب كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) عرف من خلال هذا لكتاب، الذي أرخ فيه للدولة السعودية الأولى والثانية، وكان معاصراً لها، ولد عام عشرة ومائتين وألف، هجرية في بلدة جلاجل بسدير، وقد عاش يتيماً، حيث توفي والده وعمره خمس سنوات، وقد اعتاد الناس في تلك الحقبة من الزمن أن يدفعوا بأبنائهم الصغار إلى المساجد لحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية، ومنهم من لا يفعل ذلك، بل يكتفي بأن يبقى أبناؤه بجانبه، يساعدونه في الزراعة أو التجارة، حيث لا مجال الصناعات في ذلك الوقت، ومن أولئك الذين تم الدفع بهم إلى المساجد للتعلم قد لا يرون أنفسهم قادرين على مواصلة الدروس، فيعودون أدراجهم لمساعدة الأسرة في المهام التي اعتدوا عليها، وربما توارثوها كابراً عن كابر. وفيما يبدو أن الطفل عثمان بن بشر كان لديه الاستعداد الفطري في التعليم، وأن البيئة المنزلية كانت مشجعة لذلك، لهذا فقد واصل تعليمه في بلدته حتى بلغ الرابعة عشرة، فانتقل إلى الدرعية مركز القوة السياسية والاقتصادية والعلمية للفكر السائد بما له وما عليه، وكانت الحركة العلمية في ذروتها والنجاح العسكري لوحدة البلاد، وهذا ما منحه قوة وأمل، فتوسع هذا الفتى فيما هو متاح من علم شرعي وأدبي، ومعرفي بالفلك والمواسم الزراعية والحساب البسيط. أثمر كل ذلك عن كتابته تاريخاً حولياً عما عاصره، وما سمع أو قرأ ممن سبقه، في المنطقة أو خارجها، وإن كان بشكل محدود، ولهذا فقد حفظ لنا ووثق بأسلوبه ونظرته بعضاً من الأحداث، التي لولا توثيقه لما وصلت إلينا، وهناك أقوال حول أسلوبه واستخدامه لبعض العبارات العامية، وانقطاع توثيق بعض الأحداث، وعدم تسلسلها، أما المهتمون بالنقد التاريخي والأدبي، فيرون أنه قد نقل حرفياً من كتاب الشيخ حمد بن لعبون المعروف باسم (تاريخ بن لعبون) المعاصر له، حتى أن الأخطاء التى وقع فيها ابن لعبون نقلها كما هي، بل قال البعض إن أحد أبناء ابن لعبون سرب نسخة إلى ابن بشر، وابن لعبون توفي في عام ستين ومائتين وألف، بينما توفي ابن بشر في عام تسعين ومائتين وألف، لهذا فقد أتم الفترة التالية لابن لعبون، وهي إضافة مفيدة ولاشك، وقد تم تداول وطباعة نسخة بن بشر قبل نسخة ابن لعبون، مما جعلها أكثر شهرة، ومهما يكن فإن ابن بشر قد ساهم مساهمة كبيرة ومفيدة للتعرف على الأحداث التي وقعت في الدولة السعودية الأولى والثانية. موضوع هذا المقال ليس ابن بشر المؤرخ الذي ربما يعرفه الكثير، وإنما ابن بشر الأديب، الذي لا يعرفه إلا البعض، فقد صنف كتاباً سماه (مرشد الخصائص ومبدئ النقائص في الثقلاء والحمقى وغيرهم)، بطلب من أحد العزيزين عليه، ولا أعلم لماذا اختار هذا العنوان، وقد جمع فيه من كتب السابقين بعض القصص والطرائف، كما شمل الكتاب على بعض النصائح، وقد اقتطف بعضاً مما جاء في زاد المستطرف في كل فن مستظرف، وإذكر أنني قرأت هذا الكتاب وأنا في المرحلة المتوسطة، حيث حصلت عليه بطبعة قديمة في صناديق عتيقة من الخشب، عددها نحو ثلاثة عشر، تركها والدي -رحمه الله- بعد أن توفي وعمري ستة أشهر، أذكر أن اخي وأنا قد أخذناها أو بعضاً منها إلى دار الكتب الوطنية التي كانت في طريق البطحاء بالرياض، وذلك قبل خمسين عاماً تقريباً، وكتب أخرى للسيوطي والطبري، وغيرهما. وسنقف عند سبب كتابة ابن بشر للكتاب، ففي ذلك إضافة جميلة وصورة من صور سلوك اجتماعي كان سائداً -آنذاك-، يقول: (إنه لما عمّت البلوى بهذه القهوة المسماة بالبن، وكثر اتخاذها في البيوت، ومع المسافرين، صارت قانوناً لكل أحد، واتخذها الغني والفقير، والجليل والحقير، فلذلك كثرت مجالسها والتزاور عليها، فكان يجلس فيها من ليس من أهلها، وإذا ظهر منها رجل، دخل آخر، وأكثر من يدخل على أهلها يلبث فيها، ويطيل الجلوس من غير حاجة، حتى أنه يدخل الداخل فيها، ويخرج الخارج، وهو في مجلسه، وكثير من الناس يدخل على أهلها من غير استئذان، فعدم فيها الأدب، وصار التطفل عليها سائغ من دون سبب، فرأى عندي بعض الأصدقاء النبلاء إشارات في أخبار الثقلاء، فسألني أن أكتبها له وأكتب على منواله ما يتم به سؤاله، فكنت في تردد لعلمي بأني لست أهلاً لذلك، ولا وصلت إلى هنالك، فلما ألح علي وحتم، تمثلت بقول الشاعر: خلت الديار فسدت غير مسود) وصدر هذا البيت، وعجز البيت: ومن الشقاء تفردي بالسؤددي. نلاحظ أنه سمى القهوة بالبلوى، التي عمت المجتمع في ذلك الوقت، ويبدو أنها وافد جديد، ويمكن لنا أيضاً أن نحدد الوقت الذي انتشرت فيه القهوة في تلك البلاد الكريمة، والقهوة في ذلك الوقت تحضر بطريقة خاصة ممتعة ومعروفة لدى الجميع، تستغرق وقتاً من بداية وضع البن على النار وتقليبه حتى تقديمه للضيوف، ولاشك أن رائحة البن، تستريح لها النفس وتنتشي، ومن الهم تستشفي، وصوت المهراس في النجر، يشنف الآذان، ويجلب الركبان، غير أن مجلساً كهذا لا بد أن تعتريه بعض من المنغصات، التي لا تخلو منها مسيرة الحياة، لوفود الطفيليين، وتزاحمهم، ويذهب الذاهب، ويقدم القادم، وهم مكوث لا يتزحزحون، يطلبون الفنجان بعد الآخر حتى آخر قطرة في الدلة، وخبزة في الملة، يفسدون على الجلوس متعتهم، وبسبب ذلك كتب كتابه بطلب من بعض أحبابه.
مشاركة :